الجمعة، 27 نوفمبر 2015

الإيمان باليوم الآخر


الإيمان باليوم الآخر

إن الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بقيام الساعة للحساب والجزاء.

والإيمان باليوم الآخر يدخل فيه الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، حيث إن الإنسان إذا مات ودُفِن، فإنه يُسأل في قبره عن ربه وعن دينه وعن نبيه، فإن كان كافرًا أو مشركًا أو مُلحدًا أو من غير المسلمين، فإنه يُعذّب في قبره إلى يوم القيامة، يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين جل وعلا للحساب، ثم يدخل نار جهنم، ويُخلّد فيها أبد الآبدين.

وإن كان مؤمنًا مُطيعًا لله عز وجل، فإنه يُنعم في قبره إلى يوم القيامة، حيث يُبعث للعرض على ربه تبارك وتعالى، ثم يدخل الجنة ويُخلّد فيها أبد الآبدين.

وإن كان مؤمنًا عاصيًا، فإنه في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه، ثم أدخله الجنة خالدًا فيها أبد الآبدين، وإن شاء تبارك وتعالى غفر له، ويُدخله الجنة خالدًا فيها أبد الآبدين.

ونودُّ أن نشير إلى جانب من الدلائل على قيام الساعة، أي اليوم الآخر:


1- الفطرة السوية السليمة والعقل الرشيد الصريح:

لقد خلق الله عز وجل الحياة الدنيا كدار بلاء وامتحان للإنسان؛ حيث يقضي الإنسان فترة عمره الوجيزة في تلك الحياة الدنيا كامتحان واختبار من الله عز وجل له، حيث يُكلفه ربه جل وعلا بأوامر وتكاليف، وينهاه عن انتهاك وتعدِّي ما حرمه عليه، وذلك وفقًا لما تقتضيه حكمة الله عز وجل، ثم بعد ذلك يَلْقى هذا الإنسان جزاءه بعد موته، حيث يُوفِّيه ربه جل وعلا حسابه.

والفِطَر السوية والعقول الرشيدة تستنكر أن يكون مصير المحسنين المطيعين لله عز وجل كمصير المسيئين الذين أساءوا وعصوا الله جل وعلا، تستنكر أن يتساوى المحسنون والمسيئون بأن يموت كل منهما بلا رجعة للتفاضل بينهما.

وكما هو معلوم أن الحياة الدنيا ليست دار جزاء، فمن الممكن أن نرى المحسن وقد سُلب حقه من غيره، وأوذي من المفسدين أشد الإيذاء ممن هو أشد وأقوى منه من الجبابرة والطغاة، وذلك إلى أن يموت دون أن يستطيع الانتقام لنفسه أو ردًّا لحقه.

إذن، فلا بد من دار آخرة تكون دار جزاء، ليستقيم فيها هذا الأمر، حيث يُرد للمظلوم حقه من الظالم وأن يُجازى المُحسن بإحسانه في الدنيا إحسانًا من الله تعالى في الآخرة، وأن يجازى المسيء بإساءته في الدنيا السوء في الآخرة كعقاب له.

وهذا مما تتوافق معه الفطر السوية والعقول الرشيدة، بل وتتطلع إليه، وهذا هو ما أقره الله تعالى في صيغة سؤال استنكاري، في قوله جل وعلا:


﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28].

﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35، 36].


فالفِطَر السوية والعقول الرشيدة تنفي أن يتساوى الصالحون مع المفسدين.


ومن جانب آخر: فإن الآخرة تُعد ضرورة خُلقية.

حيث إنه إذا لم يكن هناك دار آخرة للجزاء، للثواب والعقاب، لَمَا كان التمسك بالأخلاق الحميدة والصفات الحسنة التي لا تَصلُح المجتمعات إلا بها؛ لأنه في حال انعدام الدار الآخرة، يتساءل الإنسان الأمين في نفسه –كمثال افتراضي-: لِمَ التمسك بهذه الصفة (الأمانة)، وقد كان من الممكن أن أُحَصِّل من المنافع كذا وكذا.. لولا التمسك بها؟!

فإذا لم يكن هناك دار آخرة يلقى فيها الإنسان أجره جزاءً لتضحيته بما قد يُعَد من المصالح والمنافع الدنيوية في حال تمسكه بالأمانة وغيرها من الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة -كما كان التمسك بهذه الصفة وغيرها- بل ويُعَدُّ حينئذ التخلي عنها وعن غيرها في حال جَلْبِ المصالح والمنافع الدنيوية أَوْلَى بالنسبة له.

لذلك، فإن الآخرة تُعدّ ضرورة خُلُقية لصلاح المجتمعات وعدم فسادها، وهذا من حكمة الله عز وجل.


2- إخبار الأنبياء والمرسلين بالبعث والحساب:

لقد أرسل الله عز وجل أنبياءه ورسله بالعقيدة الصافية والدعوة الصادقة التي تتوافق مع الفطرة السوية والعقل السليم، وأيدهم بالمعجزات والخوارق التي يعجز عن الإتيان بمثلها إلا من كان نبيًّا أو رسولا مؤيدًا من ربه تبارك وتعالى.

لذلك كان لازمًا على الناس أن يؤمنوا بما دعوا إليه، وأن يصدقونهم فيما أخبروا به ويتبعونهم.

ومما أخبرت به الأنبياء والرسل: اليوم الآخر، حيث يُبعث الإنسان بعد موته للحساب والجزاء من إلهه وخالقه.

لذلك: كان من اللازم أن يؤمن الناس باليوم الآخر، يوم الحساب والجزاء، وفقًا لما أخبر به الأنبياء والمرسلون.


3- حكمة الله سبحانه وتعالى وعدله تقتضيان البعث والجزاء:

إن من حكمة الله عز وجل وعدله أن يجعل هناك يومًا آخر بعد نهاية الحياة الدنيا، لينال كل إنسان جزاءه، وما يستحق من الثواب والعقاب على ما قدَّم من خير أو شر.

فإننا نرى أُناسًا يفارقون الدنيا وهم ظالمين لغيرهم، ولم يُقتص منهم، وآخرين يفارقونها مظلومين لم تُرد إليهم مظلمتهم.([1])

ونرى فيها أشرارًا مُنغمسين وأخيارًا معذبين، فإذا ذهب كل إنسان بما فعل ظالمًا كان أو مظلومًا، من غير انتصاف للمظلوم من الظالم، ومن دون تمييز للمُحسن من المسيء، كان ذلك قدحًا في عدل الله عز وجل وحكمته.([2])

لذلك، فإن من حكمة الله عز وجل وعدله أن يكون هناك يوم يحضر فيه الجميع بين يدي الإله الملك سبحانه وتعالى ليُقتص للمظلوم من ظالمه، ولينال كل مُحسن ومسيء جزاءه([3])، وفقًا لقول الله تعالى:


﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].

﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 48].

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36].



دلائل مرئية، عقلية موجزة على إحياء الله عز وجل للإنسان بعد موته للجزاء، وقدرته عز وجل على ذلك:


نشير أولا: أن زعم المنكرين للبعث ما هو إلا ظن كاذب باطل، والظن لا يُدفع به اليقين، وفقًا لقول الله تعالى:

﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28].


1- النشأة الأولى للإنسان:

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5].

فكما أن الله عز وجل خلق الإنسان من تراب بعد أن لم يكن شيئًا، وجعله ينتقل من مرحلة لأخرى أثناء فترة خلقه، فإنه عز وجل قادر على أن يبعث الإنسان
بعد موته وتحلله نظير النشأة الأولى، ومن ثم يلزم الجميع عدم إنكار النشأة الآخرة للإنسان.


ويؤكد ذلك علميًّا، لقد اكتشف العلم الحديث:

أن أجساد الأموات بعد تحلُّلها في قبورها إلى مكوناتها الأساسية من الماء والتراب، يبقى منها شيء مهم: وهي عظمة مثل حبة الخردل، وهي (عجب الذنب)، حيث لا يأكلها التراب.

- وقد اكتشف أيضًا:

أن هذه العظمة (عجب الذنب) هي المنظم الأول، حيث يُخلق منها جميع أنسجة وأعضاء وأجهزة الجنين، وأنها لا تَبلى أبدًا.

وننوه إلى: أن أول من نطق بهذه الحقيقة العلمية هو سيد الأنبياء والمرسلين محمد صل الله علية وسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، حيث أخبر في حديثه الشريف:


((كل ابن آدم يأكله التراب، إلا عجب الذنب، منه خُلِقَ وفيه يُركب)) [رواه مسلم].


لذلك: فإن هذا الحديث النبوي الشريف ومضة مبهرة، وشهادة حق بأن محمدًا محمد صل الله علية وسلم هو رسول رب العالمين، أيَّده ربه تبارك وتعالى بعظيم وشتى المعجزات، إيذانًا من الله تبارك وتعالى بختم الرسالات السماوية ببعثة خاتم أنبيائه ورسله محمد محمد صل الله علية وسلم.


2- النوم واليقظة:

إن نوم الإنسان يُعدّ موتة صغرى، ثم إن يقظته من نومه بمثابة حياة بعد موت، فكل إنسان يموت موتة صغرى، ثم يحيا حياة دنيا، على هذا المنوال في كل يوم وليلة.

ففي نوم الإنسان ويقظته إشارة إلى أن هناك حياة أخرى بعد موتته الكبرى ونهاية أجله في الحياة الدنيا من أجل الحساب والجزاء.


3- إحياء الأرض بعد موتها:

قال الله تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5].

فكما أن الله عز وجل أحيا هذه الأرض الهامدة الميتة، القاحلة التي لا نبات فيها بإنزال الماء عليها، وجعلها ذات نبات نَضِر، فهو جل وعلا قادر على إحياء البشر بعد موتتهم.


4- إخراج النار من الشجر اليابس، أي إخراج الشيء من ضدِّه:


قال الله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس: 80].


إن من طبيعة الشجر: الرطوبة والبرودة،
ومن طبيعة النار: أنها يابسة حارة، 
فكما أن الله عز وجل أخرج النار اليابسة الحارة من ضدها وهو الشجر الرطب البارد الأخضر، فهو جل وعلا قادر على أن يُخرج الحياة من الموت، قادرٌ على أن يجيء بالإنسان مرة أخرى بعد موته للحساب والجزاء.

وقد كان قديمًا: يأتي من يريد أن يقدح نارًا وليس معه زِناد بعودين أخضرين من شجر المرخ والعفار اللذان ينبتان بأرض الحجاز، ويقدح أحدهما بالآخر فتتولد النار من بينهما.


5- عظمة المخلوقات الأخرى التي خلقها الله عز وجل:

قال الله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: 57].

فكما أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض مع عِظمِهِما وسِعتهما، فهو جل وعلا قادر على إحياء الإنسان بعد موته، حيث إن خلق السموات والأرض أكبر وأعظم من خلق الإنسان الضعيف.

تنبيه:

لقد ذكرنا أنه: من الإيمان باليوم الآخر، أن نؤمن بعذاب القبر ونعيمه، بمعنى: أن الإنسان يحيا في قبره حياة من نوع آخر، لا علم لنا بكيفيتها وهي (حياة البرزخ) وأثناء هذه الفترة (حياة البرزخ) داخل القبر: إمَّا أن يُنعَّم الإنسان في قبره لكونه مؤمنًا صالحًا، وإمَّا أن يُعذَّب لكونه كافرًا، مشركًا، مُلحدًا، أو فاسقًا عاصيًا.

وقد ينكر أحد المُفترين الكاذبين عذاب القبر بحجة أنه لا يرى ذلك العذاب، أو النعيم إذا ما ترك القبر مفتوحًا على صاحبه الذي دُفِنَ فيه، وبحُجَّة أنه قد يُدفن اثنان أو ثلاثة أو أكثر –للضرورة- في قبر واحد ويكون منهم العُصاة والصالحين، فكيف يُعذب العاصي وبجواره الصالح الذي سوف يتأذى بعذابه، وكيف يُنعَّم الصالح وبجواره العاصي الذي سوف يصيب من ذلك النعيم؟!

وللجواب على مثل تلك الشبهة نذكر:

أولا: أن الله عز وجل قادر على كل شيء، كما هو ثابت لدينا، وقد أشرنا إلى عظيم صفات الله عز وجل وطلاقة قدرته.


لذلك، إن الله عز وجل قادر على أن لا يُري الإنسان ما يحدث داخل القبر من حياة البرزخ، ومن سؤال الملكين، ومن عذاب أو نعيم، وإن تُرك القبر مفتوحًا على صاحبه، بل وإن لم يُدفَن.

والله عز وجل قادر على أن يُعذِّب العاصي، وأن يُنعِّم الصالح دون أن يحظى العاصي بنعيم مما يُنعَّم به الصالح، ودون أن يتأذى الصالح بعذاب مما يُعذّب به العاصي، وإن دُفِنا بقبر واحد بجانب بعضهما.

ونُدلِّل على ذلك عقليًّا:

إذا ما نام رجلان، وفراش أحدهما بجانب فراش الآخر، فقد يَرى أحدهما في منامه ما يسوؤه ويضره أشد الإساءة والضرر، بل وفي بعض الأحيان يود لو أن يقوم من نومه من شدة ما يؤذيه في منامه أثناء نومه، ولا يستطيع ذلك.

وقد يرى الآخر رؤيا صالحة مُبشرة تَسُرُّه وتُفرحه أشد ما يكون السرور والفرح، وودَّ لو بَقِيَ هكذا في رؤياه دون أن يستيقظ.

ونقول: فمع أن الرجلين نائمان أمام أعيننا، وعلى قُرب منا إلا أننا لا نستطيع رؤية ما حدث لكل منهما، فهل نُنكر ما قد أخبرا به في حال نومهما؟!

بالطبع: لا.

ومع أن فراشي الرجلين كانا متقاربين، وبجوار بعضهما، إلا أنه لم تختلط رؤيا أيا منهما بالآخر، فإذا كان ذلك في تلك الحياة الدنيا، فما بالنا بحياة البرزخ والحياة الآخرة بعد البعث للحساب، اللتين لهما وصف آخر ومقاييس ومعايير أخرى مُغايرة لما هي عليه الآن في تلك الحياة الدنيا.

لذلك، فإنه يجب علينا الإيمان بكل ما أخبرت به الأنبياء والرسل، والتسليم واليقين بكل ما جاءوا به.

([1] ) منهج الجدل والمناظرة في تقرير الاعتقاد، للدكتور/ عثمان علي حسن.

([2] ) نفس المصدر.

([3] ) منهج الجدل والمناظرة في تقرير الاعتقاد، للدكتور/ عثمان علي حسن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق