الاثنين، 30 نوفمبر 2015

قصَّة الصَّلبِ في الأناجيل

قصَّة الصَّلبِ في الأناجيل


إن الذي يقرأ قصَّة الصَّلبِ في الأناجيل يُلاحِظ أن الشخص الذي صلبته اليهود لم يكن عيسى؛ وذلك لما يلي:
1- لم يكن "عيسى" معروفًا بشَخصِه لدى رجال الشرطة، التي أُمرت بالقبض عليه؛ ولذا أخذوا معهم "يهوذا الإسخريوطي" ليُعيِّنه لهم.

2- ثبَت أن "يهوذا" ندم على استعداده لمُعاوَنة الشرطة، في تعيين شخص عيسى من بين التلاميذ، وردَّ لهم المبلَغَ الذي أخذه منهم.

3- يُحتمل - بِناءً على هاتين الملاحظتين - وهما مذكورتان في الإنجيل نصًّا، أن يهوذا أدركته الندامة قبل وصوله مع رجال الشرطة إلى المَكان الذي فيه عيسى مع تلاميذه، فعيَّن لهم أحد التلاميذ على أنه "عيسى"، ولم يُنكِر التلميذ رغبة في إنقاذ مُعلِّمه، فأُخذ وصلب.

4- أن اليهود قتلتْ رجلاً لم تُعيِّنه بإقرار الإنجيل، ولم تَعرِفه إلا بشهادة "يهوذا الإسخريوطي" أنه ذلك المَطلوب، وأما الإنجيل فلا دليلَ فيه صادقٌ بتحقيق ذلك، ولا خبرَ قاطع للحُجَّة، كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية مُتضافِرة دالَّة على عدم صلب "عيسى" - عليه السلام - ووقوع الشبه على غيره؛ وذلك مِن وجوه، منها:
أ- جاء في الإنجيل أن المطلوب قد استَسقى اليهود، فأعطوه خلاًّ ممزوجًا بمرارة، فذاقه ولم يشربه فنادى: إلهي إلهي، لم خذلتني، أو "إيلي، إيلي، لم شبقتني"؛ "إنجيل متى"، (إصحاح، 28)، في الوقت الذي صرَّحت فيه الأناجيل بأن عيسى - عليه السلام - كان يَطوي أربعين يومًا وليلة، ويقول للتلاميذ: إن لي طعامًا لستم تعرفونه، ومَن يَصبِر على العطش والجوع أربعين يومًا وليلة كيف يُظهر الحاجة والمذلة والمهانة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد!

هذا لا يفعله أدنى الناس، فكيف بخواصِّ الأنبياء؟ أو كيف بالربِّ تعالى - على ما تدعيه النصارى؟!

فيكون حينئذ المُدَّعي للعطش غيرُه يَقينًا، وهو الذي شُبِّه لهم.

ب- قوله: إلهي إلهي، لم خذلتني؟ هو كلام يَقتضي عدم الرضا بالقضاء، وعدم التسليم لأمر الله تعالى، وعيسى - عليه السلام - مُنزَّه عن ذلك، فيكون المصلوب غيره، لا سيما والنصارى يقولون: إن المسيح - عليه السلام - نزَل ليؤثِر العالَم على نفسِه، ويُخلِّصه مِن الشيطان ورجسه، فكيف يتَّفق هذا مع ذلك؟ وهو على خلافه تمامًا؟!

5- جاء في التوراة أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون - عليهم السلام - لما حضرهم الموت، كانوا مُستبشِرين بلقاء ربهم، فلم يَجزعوا من الموت، ولم يَهابوا مذاقه ولم يَعيبوه مع أنهم عَبيد الله، والمسيح - بزعم النصارى - ابنُ الله أو هو الربُّ، فكان يَنبغي أن يكون أثبت منهم، ولما لم يكُ كذلك، دلَّ على أن المصلوب غيره.

6- نطَق الإنجيل بأن عيسى - عليه السلام - نشأ بين ظهور اليهود، وكان معهم في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم، يَعِظهم، ويُعلِّمهم، ويُناظرهم، ويعجَبون من براعته وكثرة تحصيله؛ حتى كانوا هم يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ أليست أمه مريم؟ فمِن أين له هذه الحكمة؟

وإذا كان كذلك غاية في الشهرة والمَعرِفة عندهم، فلمَ نصَّ الإنجيل على أنهم وقتما أرادوا القبضَ عليه لم يُحقِّقوه، حتى دفعوا لأحد تلاميذه، وهو يهوذا، ثلاثين دِرهمًا ليَدلَّهم عليه؟ فلما قبَّله لهم، وهي العلامة المتعارف عليها، أمسكوه وربطوه وتركه التلاميذ وهرَبوا، وتبعه "بطرس" من بعيد، فقال له رئيس الكهنة: أَستحلِفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟ فقال له المسيح: "أنت قلت ذلك!"؛ انظر: "إنجيل متى" (إصحاح: 26).

تُرى هل يمكن أن تلتبس شخصية المسيح على رئيس الكهنة والجمع الكبير حتى يَستحلِفه باسم الله الحي: هل أنت المسيح؟ فيقول له: أنت تقول؟!

7- وهذا يؤكِّد لنا أن المصلوب ليس عيسى، وإنما غيره يقينًا، أُلقي عليه شبه عيسى، حتى صار الناس في شكٍّ منه، فالشبه شبه عيسى، ولكن الدلائل والأحوال تؤكِّد أنه غير عيسى - عليه السلام - لذلك سأل كبير الكهنة ذلك المصلوب: هل أنت المسيح؟!

8- وليس هذا فقط، بل شك فيه كل تلامذته، وأنكره أحب التلاميذ إليه.

وفي الإنجيل أيضا: "أن يَسوع كان مع تلاميذه بالبستان، فجاء اليهود في طلبه فخرَج إليهم، وقال لهم: مَن تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصُه عنهم، ففعل ذلك مرتين"؛ إنجيل يوحنا.

وفي إنجيل متى: "بينما التلاميذ يأكلون طعامًا مع يَسوع قال: "كلُّكم تَشكُّون فيَّ هذه الليلة، فإنه مكتوب أني أَضرِب الراعي فتفترق الغنم، فقال "بطرس": فلو شكَّ جميعهم ما أشكُّ أنا، فقال يسوع: الحق أقول لك: إنك في هذه الليلة تُنكِرني قبل أن يَصيح الديك"، وقد كان؛ فقد شهد عليهم بالشك، بل على خيارهم أو أخيرهم "بطرس" فإنه خليفته عليهم.

فقد انخرم حينئذ الوثوق بأقوال النصارى في صلب المسيح، وجُزم بإلقاء الشبه على غير "عيسى" - عليه السلام.

ما الذي يمنَع الشبه أو يُحيله، والله - عز وجلَّ - قادر على أن يجعل شبه "عيسى" - عليه السلام - على ذلك الخائن، أو على شيطان، أو على أي شيء، والله - سبحانه وتعالى - الذي جعل مِن عَصا موسى حية، قادر على أن يجعل إنسانًا شبه إنسان، فإذا كان الله - عز وجلَّ - خلق جميع ما للحية في عصا موسى - عليه السلام - وهو أعظم مِن الشبه - فإن جَعْلَ حيوان يُشبه حيوانًا، أقرَبُ مِن جعل نبات يُشبِه حيوانًا وقلب العصا حيةً تَسعى، مما أجمَع عليه اليهود والنصارى، كما أجمَعوا على جعل النار لإبراهيم - عليه السلام - بردًا وسلامًا، وعلى قلب الماء خمرًا، فإذا جوَّزوا مثل هذا، جوَّزوا - أيضًا - إلقاء الشبه مِن غير استحالة، وصدق الله: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 8].

10- ولم يقع الشك من رئيس الكهنة فقط، ولا مِن تلاميذ المسيح حتى "بطرس" فحسب، بل مِن جميع مَن كان في المشهد، وحتى الذين اقتادوا عيسى لصلبِه، سألوه قائلين: "إن كنتَ أنتَ المسيح فقل لنا"، فقال لهم: "إن قلتُ لكم لا تُصدِّقوني، وإن سألتُ لا تُجيبوني ولا تُطلقونني"؛ "إنجيل لوقا"، (إصحاح: 22 (67)).

والمعنى واضح: إن قلتُ لكم: لستُ أنا المسيح لا تُصدِّقونني، وإن سألتُكم بعدها أن تُطلِقوا سراحي لا تُجيبون طلَبي، ويَستحيل أن يكون المعنى: إن قلتُ لكم أنا المسيح لا تُصدِّقوني؛ لأنهم إذا كانوا لا يُصدِّقونه أنه المسيح فلمَ جاؤوا به؟

فلم يبقَ إلا المعنى الوحيد المعقول: وهو إن قلتُ لكم: لستُ أنا المسيح لا تُصدِّقونني ولا تُجيبونَني إلى ما أريد، ولا تُطلقونني.

11- بل في الإنجيل ما يُصرِّح بنجاة عيسى - عليه السلام - حتمًا، ويؤكِّد إلقاء الشبه على غيره يقينًا، وذلك في قوله: "أقول لكم: إنه في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد، فيؤخذ الواحد ويترك الآخر"؛ "إنجيل لوقا"، (إصحاح: 17(34-36))؛ أي: التلميذ الخائن يؤخذ، ويترك المسيح، بدليل ما جاء في سفر الأمثال "الشرير فدية للصديق"؛ سفر الأمثال، إصحاح: 21(18)؛ يعني: الخائن يُصلَب فدية للصديق وهو المسيح.

ويقول سفر المزامير: "كثيرة هي بلايا الصديق، ومِن جميعها ينجيه الله، يَحفظ جميع عظامه، واحد منها لا يَنكسِر، الشرُّ يُميت الشرير، ومُبغضو الصِّديق يُعاقَبون، الرب نادى نفسَ عبدِه وكل مَن اتَّكل عليه لا يعاقب"؛ "مزمور 34" عدد: (18).

وفي إنجيل يوحنا: "فرفعوا حجارة ليَرجموه، أما يسوع فاختفى وخرَج مِن الهيكل مجتازًا في وسطهم"؛ "إنجيل يوحنا"، إصحاح 8 (59)، فطلَبوا أيضًا أن يُمسِكوه فخرَج مِن بين أيديهم"؛ "إنجيل يوحنا"، إصحاح: 1 (36).

12- وفي إنجيل متى "مكتوب أنه يُوصي ملائكته بك، فعلى أيديهم يَحملونك لكَيلا تصدم بحجر رجلك"؛ إنجيل متى، إصحاح: 4 (6)، فكيف تكون الوصية للملائكة حتى لا تُصدم رجل المسيح بحجر، ثم يترك للصلب والتعذيب والإهانة؟!

13- وفي إنجيل يوحنا: "أرسل الفريسيُّون ورؤساء الكهنة خدامًا ليُمسكوه، فقال لهم يسوع: أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد، ثم أمضي إلى الذي أرسلني، ستَطلُبونني ولا تجدونني، حيث أكون أنا لا تَقدِرون أنتم أن تأتوا، فقال اليهود - فيما بينهم -: إلى أين هذا مُزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟ لعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم اليونانيين"؛ إنجيل يوحنا، إصحاح: 7 (35-36)، فما معنى هذا القول الذي قال المسيح: "ستَطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟!

ألا يعني هذا أن ملائكة الربِّ حملتْه بعيدًا إلى السماء في يوم الضيق، ولم يتمكن منه الكهنة والفريسيون، بل إن الكهنة والفريسيين لم يروه أبدًا، ولم يروه بعد أن تركهم في الهيكل، كما قال لهم في آخر لقاء عاصف معهم: "إنني أقول لكم: لا تَرونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب، ثم خرج يسوع ومضى مِن الهيكل"؛ إنجيل متى، إصحاح: 23 (29).

14- والمسيح نفسه ينفي عن نفسه فكرة القتل والصلب، يَنفيها بكل قوة في مواضع كثيرة، ويتوعد بالقتل والصلب بدلاً منه "يهوذا الخائن" بقوله: "سقط في الهوة مَن صنع"؛ إنجيل يوحنا.

وذلك لأن: "الرب قضاء أمضى، الشرير يُعلَّق بعمل يدَيه، المُعلَّق على الخشبة ملعون مِن الله"؛ إنجيل يوحنا، "بأيِّ جُنون وبأي حماقة لعنوا الناموس والمسيح، المسيح افتدانا من لعنة الناموس؛ إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب: ملعون كل مَن عُلِّق على خشبة".

نقول لهم: ألم تهتزَّ عقولكم وقلوبكم ولو مرة واحدة، فتكفَّ عن لعنة الناموس والمسيح؟ ألم تسمَعوا يَسوع يقول لكم: "تَعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني، أليس موسى قد أعطاكم الناموس، وليس أحد منكم يعمَل بالناموس، لماذا تَطلُبون أن تقتلوني؟"؛ "إنجيل يوحنا"، إصحاح: 7 (19).

فارجعوا إلى الحق الذي جاء به المسيح، فهو طريق الخلاص الحقيقي، لا ما أنتم عليه، وتذكَّروا قوله: "اذهبوا وتعلَّموا ما هو، إني أريد رحمةً لا ذبيحة"؛ إنجيل متى، إصحاح: 9 (13).

ومن هنا نعلم أن هذه الأناجيل ليست قاطِعة في صلبه، بل فيها اختلافات وشُكوك كثيرة -كما قدمت لك - وصدق الله: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾ [النساء: 157]؛ اهـ.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق