السبت، 28 نوفمبر 2015

الملحد ودعواه أن الأخلاق مصدرها الطبيعة



الملحد ودعواه أن الأخلاق مصدرها الطبيعة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابِه الغُر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرضُ الإلحاد، وهو أحدُ الأمراض الفكرية الفتَّاكة؛ إذ يفتِك بالإيمان ويعمي الحواسَّ عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريضَ يجادل في البديهيَّات ويجمع بين النقيضين ويفرِّق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا ومن العلم جهلاً ومن الحق باطلاً ومن الباطل حقًّا.

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهلُ بالدين، وضعفُ العقيدة واليقين، والاسترسال في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علمٌ شرعيٌّ مؤصل.

وشبهات أهلِ الإلحاد ما هي إلا أقوالٌ بلا دليل، وادِّعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثِّر في بعض المسلمين؛ لقلَّة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بدَّ من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد؛ شبهةً تِلو الأخرى، ومغالطةً تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشبَههم.

وفي هذا المقال سنتناولُ بإذن الله دعوى يكثرُ تَكرارها من الملاحدة واللاَّدينيِّين؛ ألا وهي أن أخلاقَ الإنسان مصدرُها الطبيعة وتُستمد من الطبيعة، ومنشأ الأخلاق هو منشأٌ طبيعي بحت، هدفُه الحفاظ على النوع، واستمرار بقاء الفرد، وتحقيق فائدةٍ شخصية غير مباشرة من خلال الفائدة العامة المباشرة.

ومنهم من يقول: الأخلاق يجب أن تُفسَّر تفسيرًا ماديًّا، ووفقًا لقانونٍ طبيعي؛ فمنطق الحاجة الطبيعيَّة المباشِرة هو الذي يتحكَّم في الأخلاق الإنسانيَّة، تمامًا مثلما تتحكَّم الجاذبية في سقوط التفَّاحة.

وبالَغ بعضهم في الطبيعة حتى وصلَ أنْ قال: "إننا مجبورون على السير في الطريق الذي رسمَته لنا الطبيعة؛ فإننا لا نسير إلا في الطريق الذي نحبُّه، ولكننا لم نحب نحن هذا الطريق، ولكنَّ الطبيعة هي التي جعلَتنا نحبُّه وهي التي تجبرنا على السير فيه، والإنسان نظامٌ - كغيره من النُّظم في الطبيعة - يخضع بدوره لقوانين الطبيعة الحتميَّة".

ومنهم من يزعم أن الانتخابَ الطبيعيَّ هو صاحبُ الكلمة الأخيرة في تقرير سلوك الإنسان، وقد أنتج هذا الانتخابُ عند الكائن البشريِّ نوعًا من القاعدة الأخلاقيَّة الكونيَّة، والأخلاق تطورَت تطورًا تدريجيًّا، وليس عبر قفزات نوعية.

ومنهم من يدَّعي أن الأخلاق تَكيُّف بيولوجي تطوري.

ومنهم من يزعم أن وجود قِيم أخلاقية مشتركة بين الشعوب المختلفة يمكن تفسيره بالدَّاروينية الاجتماعية!

ومنهم من يدَّعي أن الأخلاق قوانينُ سلوكيةٌ تفرضها الطبيعةُ، وحسب آليَّة الانتقاء التَّطوري والقائمة على الغربلة الطَّبيعية المستمرة عبر ملايين السِّنين؛ صارت الكائنات تمتلك مزيجًا من السُّلوكيات الأنانية (الشرِّيرة) من ناحية، والسُّلوكيات الأخلاقيَّة الإيثارية (الخيِّرة) من ناحيةٍ أخرى، ممَّا مكَّنها من التَّعاون الدَّاخلي، وتحسين مجتمعها، والحفاظ على بقائها ضد الأعداء.

وقبل الرد على هذه الدعاوى لا بدَّ من معرفة مفهوم الأخلاق، ومعرفةِ مفهوم الطبيعة، ومعرفة مفهوم الدارونية الاجتماعية.

مفهوم الأخلاق:
الأخلاق مفرد كلمة خُلُق، والخُلق عبارة عن: "هيئة للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعالُ بسهولة ويُسْر، من غير حاجة إلى فكر ورويَّة"؛ فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئةُ خُلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمِّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقًا سيئًا، وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن مَن يصدر منه بَذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال: خُلقه السخاء؛ ما لم يثبت ذلك في نفسه[1].

والذي يفصلُ الأخلاقَ ويميِّزها عن غيرها؛ هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسَن عن الغريزة؛ فالأكل مثلاً غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة، وليس مما يمدح به أو يذم، لكن لو أنَّ إنسانًا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعلُه مذمومًا؛ لأنه أثَرٌ لخُلق في النفس مذموم؛ وهو الطمع، وعكس ذلك أثَرٌ لخُلق في النفس محمود؛ وهو القناعة، كذلك فإن مسألة حبِّ البقاء ليست محلاًّ للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوفَ الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثرٌ لخلق في النفس مذموم؛ وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حدِّ التهوُّر، فهو أثرٌ لخلق في النفس محمود؛ وهو الشجاعة.

وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كونُ آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادةُ الإنسان عليه أو تُذم[2].

والخُلُق منه ما هو طبيعيٌّ؛ أي: فطري يولد الإنسان مجبولاً عليه؛ كالحِلم والتُّؤدة والحياء، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرُّب والبيئة؛ كالشجاعة والكرم.

ولا بد أن نفرِّق بين الخُلق والتخلق؛ إذ التخلُّق هو تكلُّفُ وتصنُّع خُلقٍ معيَّن، وهذا التصنع لا يدوم طويلاً بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلَّف لا يسمَّى خُلقًا حتى يصير عادة وحالةً للنفس راسخةً، يصدر عن صاحبه في يُسْر وسهولة، فالذي يَصدق مرَّة لا يوصف بأن خُلُقه الصدق، ومن يكذب مرَّة لا يقال: إن خلقَه الكذب، بل العبرة بالاستمرار في الفعل حتى يصير طابعًا عامًّا في سلوكه.

مفهوم الطبيعة:
الطبيعة: لفظ مشترك المعاني - أي: له عدَّة معانٍ - غامض جدًّا؛ مما دعا بعضَ علماء الطبيعة في القرن السابعَ عشر إلى تجنُّب استعماله، لقد استعمله علماء الطبيعة بمعنى كل ما هو مُشاهَد[3].

والطبيعة قد تَعني ذوات الأشياء المادِّية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا؛ من جمادٍ وحيوان ونبات، وقد تَعني صفات الأشياء الموجودة في الكون؛ من حركة وسكون، وحرارةٍ وبرودة، وليونة ويبوسة، وغير ذلك، وقد تَعني الخصائصَ الثابتة التي تميز كائنًا أو شيئًا ما، بحيث لا يمكن تصوُّره بدونها؛ كالاحتراق بالنسبة للنار، أو المكر بالنسبة للثعلب، وقد تعني مجموعَ الخصائص الأساسية الثابتة للشيء المنتمية إلى ماهيته أو جوهره في مقابل صفاته المؤقَّتة أو الثانوية، وقد تعني صفات الكائن الحي، واستعداداته المنتمية إلى الإرثِ البيولوجي في مقابل الصفات المكتسَبة، وقد تعني مجموعةَ الأشياء التي لم يتدخَّل الإنسان في صُنعها؛ كالأشجار والجبال مثلاً، وقد تعني مجموع السُّنن والقوانين المتحكِّمة في ظواهر العالم المشاهَد المحسوس، السارية على جميع موجوداته، وقد تعني المادة التي تتكوَّن منها الأشياء في العالم المشاهَد المحسوس، وقد تعني مجموعةَ الخصائص الفطرية والغريزية التي تُولد مع الإنسان، والمشتركة بين جميع الناس؛ كالأكل والنوم، وبهذا المعنى فالطبيعة: هي عكس ما هو مكتسَب وثقافي.

ويَكثر استعمال كلمة الطبيعة في الخطاب الفلسَفي الغربي محلَّ كلمة المادَّة؛ فهي عند الفلاسفة الجوهرُ الماديُّ الأوَّل الذي تُصنع منه الأشياء، وهذا الجوهر المادِّي هو أصلُ الوجود، والعلَّة الأولى في وجود هذا الكون، وهي عند أفلاطون المثال، وعلَّة الوجود، والنفس الكلِّية، وعند أرسطو هي أصل الأشياء، ومصدر الحركة، والمادة التي تُصنع منها الأشياء[4].

وقد استَخدمَت الفلسفات الغربية مفهوم الطبيعة بهذا المعنى الإغريقيِّ القديم، فالطبيعيون والمثاليُّون والواقعيون والدارونيون يرَون الطبيعة هي الأشياء، وهي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، والطبيعة هي أصل الأشياء[5].

ويقول الدكتور عبدالوهاب المسيري: "مفهوم الطبيعة مفهومٌ أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصًا في الغرب؛ فكلمة: "طبيعة" داخل السياق الفلسفي الغربي لا تُشير إلى الأحجار والأشجار والسُّحب والقمر والتلقائية والحريَّة، وإنما هي كيان يتَّسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- تتَّسم الطبيعة بالوحدة؛ فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكلُّ المتَّصِل، وما عداها مجرد جزء ناقصٍ منها، فهي لا تتحمَّل وجودَ أيَّة مسافات أو ثُغرات أو ثنائيَّات، وجماع الأشياء والإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد، ولا يوجد شيء متجاوزٌ لها أو دونَها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحدٌ صارم.

2- تتَّسم الطبيعة بالقانونية: "لكل ظاهرةٍ سبب، وكل سببٍ يؤدِّي إلى نفس النتيجة في كلِّ زمان ومكان"؛ أي: إن الطبيعة بأَسْرها متَّسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائيًّا بقوة دفع نابعةٍ منها، وهي خاضعةٌ لقوانينَ واحدة ثابتة منتظِمة صارمة مُطَّرِدة وآلية، قوانينَ رياضية عامة واضحة، حتميَّة لا يمكن تعديلها أو التدخُّل فيها، وهي قوانينُ كامنة فيها.

3- الحركة أمرٌ مادي، ومِن ثَم لا توجد غائية في العالم المادي؛ حتى لو كانت غائيَّة إنسانية، تسحَب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية.

4- لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية، ولا الإنسان الفَرد واتجاهاته ورغباته، ولا تَمنح الإنسانَ أيَّة مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقيَّة الكائنات، ويمكن تفسيره في كليَّتِه بالعودة إلى قوانين الطبيعة، والإنسان الفرد - أو الجزء - يَذوب في الكل (الطبيعي/ المادِّي) ذوبانَ الذرَّات فيها؛ أي إن الطبيعة تُلغي تمامًا الحيِّز الإنساني.

5- الإيمان بأنه لا توجد غيبيَّات، ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أيِّ نوعٍ؛ فالطبيعة تَحوي داخلَها كلَّ القوانين التي تتحكَّم فيها، وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علَّةُ ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفيةٌ بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.

يُلاحَظ أن الطبيعة - حسب هذا التعريف الفلسفي - هي نظامٌ واحدي مغلَق مكتفٍ بذاته، تُوجَد مقوِّمات حركته داخلَه، لا يشير إلى أيِّ هدف أو غرض خارجَه، يَحوي داخلَه كلَّ ما يلزم لفَهمه، وهو نظامٌ ضروري كلِّي شامل، تَنضوي كلُّ الأشياء تحتَه، وضِمنَ ذلك الإنسانُ الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها، بحيث يصبح جزءًا لا يتجزَّأ منها، ويختفي ككيانٍ مركَّب منفصل نسبيًّا عما حوله، وله قوانينه الإنسانية الخاصة؛ "ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبيرٌ عن النزعة الجنينيَّة في الإنسان"، وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي.

ولذا فنحن نرى أن كلمة "المادة" يجب أن تَحُلَّ محلَّ كلمة "الطبيعة"، أو أن تُضاف الواحدة للأخرى؛ وذلك لفكِّ شفرة الخطاب الفلسفي الذي يَستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمَه حقَّ الفهم ونُدركَ أبعاده المعرفية المادية.

ولعلَّ كثيرًا من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدَمنا كلمة "مادي" بدلاً من كلمة "طبيعي"، فبدلاً من "المذهب الطبيعي" نقول: "المذهب المادي"، وبدلاً من "القانون الطبيعي" نقول: "القانون المادي"، وبدلاً من "الإنسان الطبيعي" يمكننا أن نقول: "الإنسان المادي"، وبدلاً من "الطبيعية (بالإنجليزية: ناتشوراليزم naturalism)" نقول: "مادية"، وحينئذٍ فإننا نؤكِّد أن الإنسان الطبيعي في واقع الأمر شخصٌ يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية، ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها؛ ولذا فهو يجمع براءةَ الذئاب وتلقائيَّة الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتَها، وحينما نقول: "العودة للطبيعة"؛ فنحن نقصد أنَّ العودة ستكون لقوانين الطبيعة؛ أي: قوانين المادة، وقد فكَّ هتلر شفرة الخطاب الفلسفيِّ الغربي بكفاءة غير عاديَّة حينما قال: "يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعةُ لا تَعرف الرحمةَ أو الشفقة"، وقد تبع في ذلك كلاًّ من دارون ونيتشه"[6].

مفهوم الدارونية الاجتماعية:
الدارونية الاجتماعيةكلمة منسوبة إلى اسم تشارلز دارون (1731 - 1820)، وهي فلسفة عَلمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كونيَّة، تُنكر أيَّة مرجعية غير مادية، وتَستبعد الخالقَ من المنظومة المعرفية والأخلاقية، وتَرُد العالمَ بأسره إلى مبدأ مادِّي واحد كامنٍ في المادة، وتدور في نطاق الصورة المَجازية العضوية والآلية للكون.

والآلية الكبرى للحركة في الداروِنيَّة هي الصراع والتَقدُّم اللاَّنهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني، وقد حققَت الدارونيَّة الاجتماعيةً ذيوعًا في أواخر القرن التاسعَ عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديث في شرق أوربا، وبدأ فيها بعضُ يهود اليديشية في تبنِّي الحل الصِّهيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيل الإمبريالي الغربي يتَّسع ليقتسم العالم بأسره، ويمكن القول بأن الدارونية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة، إن لم يكن كلها.

ويَرى دُعاة الدارونية الاجتماعية أن القوانين التي تَسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسُها التي تسري على الظواهر الإنسانيَّة؛ التاريخية والاجتماعية، وهم يَذهبون إلى أن تشارلز دارون قد وصَف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجلِ الحياة.

وقد ذهب دارون إلى أن الكون بأَسْره سلسلةٌ متواصِلة في حالةِ حركة من أسفلَ إلى أعلى، وأن الإنسان إنْ هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أَرقاها، ولكنه ليس آخِرَها، ويرى دارون أن تَقدُّم الأنواع البيولوجية الحيَّة يعتمد على الصِّراع من أجل البقاء، الذي يَنتصر فيه الأصلح[7].

الطبيعة محايدة:
من المعلوم أنَّ الطبيعة محايدةٌ لا تَعرف الخيرَ أو الشرَّ، أو القُبح أو الجمال[8]، والطبيعة محايدة لا تعرف ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، والإنسان لا يمكن أن يكون محايدًا بالنسبة للأخلاق؛ ولذلك فهو إما أن يكون صادقًا في أخلاقه أو كاذبًا، أو مازجًا بين الصِّدق والكذب، وهي حالة أكثرُ شيوعًا بين البشر[9]، فكيف تكون الطبيعة المحايدةُ مصدرًا لشيء غيرِ محايد، والإنسان عنده وعيٌ أخلاقي، والطبيعة ليس عندها وعيٌ أخلاقي، والملحِد إذا اعتَبر نفسَه مادة فهذا يستلزم ألا توجد أخلاقٌ عنده؛ لأن المادة لا أخلاقَ عندها، وكيف تكون الأخلاق في الإنسان مستمَدَّة مما لا خلق عنده؟! وحسْبُ التناقض دليلاً على إسقاط أيِّ مذهب.

الطبيعة حتمية:
الطبيعة عند الماديِّين خاضعةٌ لقوانينَ آليَّةٍ ثابتة ومنتظمة وصارمة ومطَّردة، ولا إرادةَ فيها ولا اختيار، وما يميِّز فعلَ الإنسان الأخلاقي عن أيِّ فعل آخر هو المصدر الدافع إليه؛ إذ يَصدُر الفعل الأخلاقيُّ من داخل النفس البشرية من المبادئ والقِيَم والْمُثُل المغروسة فيها دون قَسر أو إكراهٍ خارجي عليه، فالإنسان يتمتَّع بالإرادة، وحرية الاختيار؛ فيمكن أن يفعلَ الشيء بإرادته واختياره، ويمكن ألا يفعل الشيء بإرادته؛ مثلاً: يمكن أن يَصدُق بإرادته واختياره، ويمكن ألا يَصدق، ويمكن أن يفيَ بعهدٍ من العهود بإرادته واختياره، ويمكن ألاَّ يفي، ويمكن أن يَرفُق بالإنسان والحيوان بإرادته واختياره، ويمكن ألا يَرفق، ويمكن أن يحترم غيرَه بإرادته واختياره، ويمكن ألا يحترم...

فكيف تكون الطبيعة التي لا إرادةَ فيها ولا اختيار - مصدرًا لأخلاق الإنسان التي يتحلَّى بها عن إرادة واختيار، وفاقدُ الشيء لا يعطيه؟!

وكيف تكون الطبيعةُ حتميَّةً والإنسانُ لا تجوز عليه الحتميَّة، ثم يقال: أخلاق الإنسان صادرة من الطبيعة، والناس ليسوا كراتِ بلياردو تتحرَّك بحتمية قوانين الطبيعة؛ ولكنها مجموعةُ إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة، يستحيل فيها التنبُّؤ القائمُ على قوانينَ مادية؟!

وإذا كان الإنسان يَسري عليه ما يسري على الطبيعة، وهو من الطبيعة وابنُ الطبيعة، فكيف يتمرَّد عليها؟! من أين له حريَّة الإرادة والقدرة على التمرُّد على الطبيعة؟!

والحتمية إنما تنطبقُ على ما هو من الكون مجبورٌ لا اختيارَ له، فهي لا تنطبق على سلوك الحيوان الذي عنده هامشٌ من الإرادة، فضلاً عن الإنسان الذي يمتلك حرية الإرادة والاختيار.

الطبيعة مادية:
إذا كانت الطبيعةُ هي المادةَ، والمادةُ هي الطبيعةَ، والمادةُ تُدرَك بالحواس، والأخلاق صفات معنويَّة، وليست صفاتٍ حسيَّة تُدرَك بالحواس، فلا أحد يرى أو يَسمع أو يشم أو يتذوَّق أو يلمس أيَّ خُلق من الأخلاق الحميدة؛ كالشجاعة، والكرم، وأداء الأمانة، والاحترام والتوقير، والاعتدال والتوسط، والإخاء، والإصلاح بين الناس، والإيثار، والإخلاص، والاستقامة، والحياء، والرحمة، والرفق، والبرِّ، والشكر، والصدق، والعدل، والعفَّة... وغير ذلك.

ولا أحد يَرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أيَّ خُلق من الأخلاق السيئة؛ كالكِبْر، والاعتداء، والإفساد، والإسراف، والتشاؤم، والمنِّ، والبخل، والبغي، والبغض، والبهتان، والتبذير، والجبن، والتجسُّس، والتواكل، والحسد، والخيانة، والرياء، والشماتة والسباب، والسخرية، وسوء الظن، والطمع، والظلم، والعُجْب، والغدر، ونقض العهود، والعنف، والغضب، والغيبة، والنميمة، والغيرة، والغشِّ، والغرور، والجفاء، والتعيِير، والفجور، والكذِب، وقولِ الزور... وغير ذلك.

وعليه فكيف تكون الطبيعةُ أو المادة مصدرًا لشيء غير مادي، ومن المعلوم أن فاقدَ الشيء لا يعطيه؟!

أخبِرونا أيها المَلاحدة: من أي مادة جاءَت الرحمةُ؟
ومن أيِّ مادة جاء العدل؟
ومن أي مادة جاء الكرم؟
ومن أي مادة جاء الإيثارُ؟
ومن أي مادة جاء الصدق؟
ومن أي مادة جاءت الشجاعة؟

وفي إطار المرجعية المادية يصير كلُّ شيء مباحًا ونِسبيًّا، فعلى أيِّ أساس مادِّي يمكن أن نحكم على سلوك الإنسان أنه سلوك حميد أو سلوك مذموم؟!

وفي إطار المرجعية المادية؛ كيف نحب الصدقَ ونكره الكذب، وكيف نحب العدلَ ونكره الظلم، وكيف نحب الكرم ونكره البخل، وكيف نحب الشجاعة ونكره الجبن، وكيف نحب الأمانة ونكره الخيانة؟!

وفي إطار المرجعية المادية؛ كيف يكون عندنا إدراكٌ للأخلاق الحسنة وإدراك للأخلاق السيئة من الطبيعة التي ليس لديها إدراك؟!

وإذا كنا في إطار المرجعية المادية نعجز عن تفسير الأخلاق فإننا نعجز أشدَّ العجز عن تفسير خُلقٍ كالإيثار والتضحية، ولا يوجد أيُّ تفسير مادِّي يجعل المادةَ تُؤْثِر مادةً على نفسها، ولا يوجد أيُّ تفسير مادي يجعل المادةَ ترفض ما هو أصلحُ لها كمادة، وتقبل التضحية من أجل مادة غيرها.

والأخلاق تضع الملحدَ في مأزق! فليس أمامَه إلا خيارين؛ إما أن يؤمن بوجودها؛ وبذلك يؤمن بوجود مصدر غير مادي تَسبَّب في نشأتها، وإما ألا يعترف بوجودها؛ وبذلك يصبح كائنًا غير أخلاقيٍّ مثله مثل الجماد.

الطبيعة تتميز بالوحدة والسببية:
الطبيعة عند الماديين تتَّسم بالوحدة؛ فهي نظام واحد صارم، وفعلها متشابه؛ لأنها واحدة في نفسهالا تَفعل بإرادة ولا مشيئة، فلا يمكن اختلاف أفعالِها، ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، والطبيعة أيضًا سببيَّة؛ فلكلِّ ظاهرة سبب، وكلُّ سببٍ يؤدِّي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان؛ مثلاً: الماء يَغلي في كل الأماكن عند 100 درجة مئوية، والتفاحة تسقط على الأرض ولن ترتفع إلى السماء في كل مكان، ولا تكترث الطبيعة عندهم بالخصوصية ولا التفرد.

والإنسان يتميَّز كلُّ فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوُها أو تجاهلها؛ فالأفراد ليسوا نسخًا متطابقة يمكن صبُّها في قوالب جاهزة وإخضاعُها جميعًا للقوالب التفسيرية نفسها[10]، ومن المشاهَد والملاحظ تبايُن طباع الناس وأخلاقهم، فلو كانت الطبيعة مصدرَ الأخلاق فمن أين لها هذا الاختلاف؟! وكيف تختلف أفعالها؟! ولو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق لكان الخَلْق متساوين في الأخلاق غير متفاوتين.

والإنسان حرٌّ في اختياره قادر على اتِّخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسؤولية، ومقاييسُ مثل الحرية والقدرة على الاختيار مقاييسُ تستند إلى الإيمان بوجود شيء ما غير مادِّي، شيءٍ متجاوز المادة، شيءٍ متجاوز الطبيعة.

القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يُلغي إرادة الإنسان ومسؤوليته تجاه أفعاله:
القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان؛ لأن الطبيعة تتَّسم بالحتمية، فلا معنى لحرية الإرادة والاختيار؛ بل يصبح الإنسانُ كالريشة في مَهبِّ الريح، لا تملك لنفسها تصريفًا ولا توجيهًا، والحرية ترتبط دائمًا بالمسؤولية؛ فإن لم يكن الشخص حرَّ الإرادة، فلا مسؤولية عليه، وبذلك يصبح القولُ بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة مُلغًى؛ لالتزام الأفراد ومسؤولياتهم وإرادتهم، ويهدم المسؤوليةَ الأخلاقية من أساسها، ولا تستقيم أمور الدنيا على ذلك؛ لأن الإنسان لا بدَّ أن يحاسَب بعمله، ويحاسب على تصرفاته، والقول إذا كان يلزمُ منه اللاَّزم الباطل فهو قولٌ فاسد لا اعتبار له.

وهل يمكن أنْ نكلِّف شخصًا بأيِّ تكليف، ونحمِّله مسؤولية ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟! وكيف نمدح الناجح في عمله، ونذمُّ الفاشلَ إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟!

وفي عالَم الحتمية: لا معنى للخير والشر، ولا معنى للثواب والعقاب، ولا معنى للمدح والذمِّ، ويصبح الحديث عن القِيم الأخلاقية العُليا لغوًا لا معنى له؛ إذ كلُّ شيء يَجري وفق قوانينَ ثابتة لا يمكن أن يَحيد عنها.


وفي عالم الحتمية: المُحسن لا يكون مختارًا عندما يُحسن، ولا المسيء يكون مختارًا عندما يُسيء.

القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يُلغي دور الإنسان في التاريخ والحضارة:
إذا كان الإنسان يخضع لحتميات الطبيعة فلا إرادة عنده ولا عزيمة، ولا اختيار ولا رغبة في التغيير ولا إرادة للتغيير، مثله مثلُ أيِّ كائنٍ آخر في الطبيعة.

وإحدى دعائم التاريخ والحضارة العنصرُ البشري الذي مهمَّته التغيير والبناء، والابتكار والإبداع، وهذا يحتاج إرادة ذاتية وعزيمة داخلية، تنبعث في نفس الإنسان، تحثُّه على التغيير والبناء، والابتكار والإبداع، ومن خلال العقل المدرِك الذي وهبه اللهُ للإنسان، والعزيمةِ الداخلية والإرادة الذاتية، والطاقات التي زوَّده بها - يستطيع الإنسانُ أن يصنع تاريخَه وحضارته على هذه الأرض.

والواقع العمَليُّ أثبَت الدَّور الإيجابي للإنسان في صُنع التاريخ والحضارة، لكن الماديِّين يُريدون سلبَ هذا الدور من الإنسان؛ وبذلك يُلغون مصدرًا أصيلاً في إنشاء التاريخ؛ إذ الحتمية تفترض أنه لا إرادة للإنسان، وكأن الإنسان يشاهد حركةَ التاريخ، ويرى ما يحدث له وللمجتمع، دون أن يشارك فيه، وهذا مخالفٌ للواقع.

التفسير الداروني لنشأة الأخلاق:
فسَّر كثير من الملاحدة نشأةَ الأخلاق بالتطور الداروني الذي آليَّتُه الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح؛ فكلُّ كائنٍ حيٍّ يسعى من أجل بقائه، وينتهي هذا السعي إلى التنازع من أجل البقاء، وهذا التنازع ينتهي إلى الانتخاب الطبيعي، وانتخاب الأصلح، وعليه فأخلاق البشر تطورَت تطورًا تدريجيًّا، ثم استقرت تبعًا لما يحقِّق للإنسان المصلحةَ والتفوُّقَ.

والانتخاب الطبيعي هو صاحبُ الكلمة الأخيرة في تقرير سلوك الإنسان، وقد أنتج هذا الانتخاب عند الكائن البشريِّ نوعًا من القاعدة الأخلاقيَّة الكونيَّة، فالأخلاق ما هي إلا تكيُّف بيولوجي تطوري لتنظيم عملية التكاثر الذي يَخدُم بقاءنا، والعملية البيولوجية هي مِعيار الأخلاقيات، وكلُّ شيء يدعمها فهو خير، وكل شيء يعارضها فهو شرٌّ.

وزَعْم الدارونيِّين: أن كلَّ كائنٍ حيٍّ يسعى من أجل بقائه، وينتهي هذا السعي إلى التنازع من أجل البقاء، وهذا التنازع ينتهي إلى الانتخاب الطبيعي وانتخاب الأصلح - زعمٌ باطل، ورجمٌ بالغيب؛ فمِن المشاهَد والملاحَظ وجودُ تعاون بين الأنواع أكبرُ من التنازع، وهناك تلاقٍ وتعاونٌ وتكامل بين الكائنات أقوى من الصراع، وهذا التَّلاقي والتعاون والتكامل هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء.

وقد شهد التاريخُ ببطلان نظرية التنازعِ من أجل البقاء، والبقاءِ للأصلح والأقوى؛ فإذا نظرنا إلى تاريخ البشر نجد خلافَ هذه النظرية؛ فها هم أهلُ الكتاب يهود ونصارى عاشوا ضعافًا في الدولة الإسلامية 12 قرنًا، وما زالوا باقين، وها هم المسلمون كانوا هم حاكمي البلاد، وبالتالي هم الأقوياء، ومع ذلك بقي أهلُ الكتاب في حكمهم، وها هم المسلمون كانوا في بداية الدعوة ضُعفاء ثم قويَت شوكتهم، وها هم النصارى كانوا ضعفاءَ في الدولة الرومانية ثم قويَت شوكتُهم، وها هم اليهود كانوا في بداية دعوة موسى عليه السلام ضعفاء ثم قويَت شوكتُهم.

ومن المعلوم بالحسِّ والمشاهدة أن أيَّ دولة من الدول تجد فيها الضعيفَ والقويَّ، ومع ذلك لم ينقرض الضعفاءُ، وما زال الأقوياء موجودين.

وبالنسبة للحيوانات والطيور والأسماك والنباتات فليس هناك تنازعٌ من أجل البقاء، ولا بقاءٌ للأقوى والأصلح؛ بل بقاء الحيوانات والطيور والأسماك والنباتات يَرجع لعدمِ وجود عوامل الانقراض؛ والتي من أهمها:
• القَطع الجائر للنباتات.

• الصيد الجائر للحيوانات والطيور والأسماك.

• تعديل البيئة؛ فتعديل البيئة يؤدِّي إلى إبادة كثير من الأنواع النباتية والحيوانية والعديد من الطيور.

• تلوُّث البيئة؛ وقد أَهلَكَت الملوِّثات المائية - من زيت البترول والعناصر الثقيلة والمبيدات - العديد من الطيور المائية والأحياء البحرية الدقيقة والأسماك التي تتغذى عليها.

وترجع عوامل البقاءِ إلى توافر مقوِّمات الحياة، وعدم وجود عوامل الانقراض، ولو كان البقاء للأقوى لما انقرضَت الديناصورات وبقيت الحشرات.

ومن المعروف أن الكثير من الكائنات الحية لا تَستطيع إنتاجَ غذائها بنفسها فتتغذَّى على غيرها، وغيرها يتغذى عليها، وهذا مِن التكامل بين الكائنات؛ مثلاً: يأكل الأرنبُ الأعشاب، وتأكل البومة الأرنب، وتموت البومة فيأكلها الضَّبع، ويموت الضبع فتتغذَّى عليه الكائنات المحللة، أو قمح يأكله فأر، والفأر يأكله ثعبان، والثعبان يأكله نَسر، والنسر يموت فتتغذى عليه الكائنات المحللة، وهكذا.

والذَّكَر القوي إذا تزوج بأنثى قوية لا يَستلزم ذلك إنجاب ولدٍ قوي؛ فقد يُنجبان ولدًا ضعيفًا حسب قوانين الوراثة؛ وكم رأينا من رجلٍ جميل يتزوج بامرأة جميلة وينجبان طفلاً غير جميل، ورأينا العكس أيضًا!

وعقليًّا ومنطقيًّا البقاء عن طريق التعاون بين الإنسان والحيوان والنبات أكبرُ وأوسعُ من البقاء عن طريق التنازع.

وتفسير نشأة الأخلاق بالتطور الداروني؛ الذي آليَّتُه الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح - تفسيرٌ لا يفرز إلا الوحشيةَ والدَّناءة؛ فالتطور الداروني لا يُنتج إلا أمثالَ هتلر، والمجتمع الداروني لا يكوِّن إلا مجتمعًا فاشيًّا؛ ينتشر فيه التعصب العنصري والتصفية العِرقية.

وقد كان الفكر التطوري الداروني سببًا في نشأة اثنين من أسوأ النُّظم الاجتماعية والسياسية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، والنازية في ألمانيا، وقد طبَّق الفكر السياسيُّ الاستعماري هذه النظريةَ على الشعوب المستعمَرة، وجعلوا منها مبررًا لسيطرة المستعمرين.

ودارون يَعتبر الأخلاقَ من نتائج الانتخاب الطبيعي في المجال السلوكي، مثلها مثل أيِّ صفات بيولوجية أخرى؛ مثل: منقار الطائر؛ هل يوصف منقار الطائر بأنه خير أو شر؟ إنه فقط مفيدٌ للقيام بوظائفه لهذا الطائر، بالتحديد تحت هذه الظروف في هذه الفترة من الزمن، لذلك فاستخدامنا لاصطلاحِ جيِّد أو سيئ يكون من منطلَق الفائدة المادية، وليس القيمة الأخلاقية؛ أي: ليس هناك أخلاق فاضلة وأخرى شريرة، ولكنْ هناك سلوكياتٌ ومفاهيمُ تعين بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع من أجل البقاء[11].

وإذا كان الانتخاب الطبيعي مبنيًّا على تحقيق المنفعة الفردية؛ حيث كلُّ فرد لا يهمُّه إلا نفسه في صراعه مع الآخرين من أجل البقاء، فهذا التفسير يُلغي الأخلاق؛ إذ مِن قوام الفضائل الأخلاقية التضحيةُ والإيثار، والتعاطف مع الآخرين؛ وفي التضحية: يَبذل الشخصُ النَّفسَ أو الوقت أو المال لأجل الآخرين دون مقابل منهم، وفي الإيثار: يقدِّم الإنسانُ حاجةَ الآخرين على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله؛ فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطشُ ليَرويَ سواه، وفي التعاطف: يضع الشخص نفسَه محلَّ الآخر، ويتبنَّى مشاعره وأحاسيسه وآلامَه، وكل هذه السلوك الأخلاقية من منطلقٍ مادي لا تخدم البقاءَ، وليس فيها تحقيق منفعة للفرد؛ بل تحقِّق منفعة لغيره؛ ولذلك هذه السلوك الأخلاقية تضع الانتخاب الطبيعي في مأزق.

والانتخاب الطبيعي يعجز عن تفسير وجود أخلاقٍ حميدة تمارسُها الكائنات تجاه كائناتٍ من أنواع أخرى؛ كالرفق بالحيوان، والشفقة على الحيوان، فهذه السلوك الأخلاقية لا تَخدم البقاءَ، وليس فيها تحقيق منفعة ماديَّة للفرد.

وإذا كانت نشأة الأخلاق تفسَّر بالتطور الداروني والانتخاب الطبيعي، فما المصلحةُ من وجود الأخلاق السيئة؛ كالكذب والغشِّ والغدر والخيانة والقتل، فهل مثل هذه الأخلاق تخدمُ البقاء أم تساعد على الفناء؟! والإنسان يَقوى بإخوانه، فهل قَتْلُ الناس بعضِهم بعضًا يخدم البقاءَ أم يساعد على الفناء؟

وإذا كانت الأخلاق نشأَت بآلية الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح، فلماذا يوجد الخلُق وضده؟! فإما أنَّ الخلق الحسن هو الذي يخدم البقاء فيصطفيه الانتخاب الطبيعي، أو الخلق المذموم هو الذي يخدم البقاء فيصطفيه الانتخاب الطبيعي.

وحسب الانتخاب الطبيعي: فأي شيء يحافظ على بقاء صور الحياة الأكثر تعقيدًا والأفضل تكاملاً يوصفُ بالخير، وما يَعوق التطورَ الداروني يعتبر شرًّا، ولو تركنا قانون الغاب يعمل عمله: بأن يَبقى الأصلحُ وحده - فإنَّ سلوكنا عندئذ يكون صوابًا؛ لأن الاتِّجاه الرئيسي للتطور الداروني يكون قد حقَّق الهدف منه، ولكن لو تدخَّلنا في مسار التطور الداروني بمعاونة الأضعفِ على البقاء؛ فإن سلوكنا عندئذ يكون من الناحية الأخلاقية خاطئًا.

وفي عالم دارون تصبح الدعوى إلى حماية الضعفاء والمرضى والمعاقين والإشفاق عليهم والعناية بهم - دعوى ضدَّ الطبيعة، ضد الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح.

وفي عالم دارون تصبح الدعوى إلى الإنفاق على الفقراء واليتامى والمساكين - دعوى ضد الطبيعة، ضد الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح.

وفي عالم دارونتصبح الدعوى إلى تحريم الزِّنا وزواج المحارم - دعوى ضد الطبيعة وضد الانتخاب الطبيعي.

وإنسان دارون إنسانُ الغاب، لا مانع عنده أن تَخونه زوجتُه أو يَزني بمحارمه.

والإنسان يمكن أن نسمِّيَه كائنًا أخلاقيًّا، بينما لا نسمِّي الحيوان كائنًا أخلاقيًّا؛ إذ لا معنى للحديث عن: قِيمٍ خُلقية، وسلوك خلقي، ومسؤوليَّةٍ وجزاءٍ في عالم الحيوانات، فالأخلاق مرتبطة بالاختيار، ويقوم الاختيار على الوعي بمبادئَ وقواعدَ يتصرَّف الإنسان وفقًا لها، ولا ترتبط هذه القواعد والمبادئ بالغريــزة والحاجة القريبة دائمًا، لكنَّ سلوك الحيوان محدودٌ بحاجاته القريبة فقط.

إن السلوكيات الأخلاقيةَ وآدابَها هي التي تُميز سلوكَ الإنسان عن سلوك البهائم، سواء في تحقيق حاجاته الطبيعية، أو في علاقاته مع غيره من الكائنات الأخرى، فالآداب زينة الإنسان من حيث الجنسُ والأكلُ والشربُ والنظافة، وتذوُّق السلوك الجميل وتمييزه عن السلوك القبيح، والبحث عن أفضل العلاقات وأحسنِها في المعاشرة والمحادثة، والتعاون والتآلف وتبادل المحبَّة والإكرام والإحسان، والتراحم والتعاطف، وغيرها؛ ولهذا فالآداب الأخلاقية زينةُ الإنسان وحِليتُه الجميلة، وبقدرِ ما يتحلَّى بها الإنسان يُضفي على نفسه جمالاً وبهاءً، وقيمة إنسانية[12].

وإذا كانت الأخلاق التي يتحلَّى بها الجنس البشري يتحلَّى بها عن وعيٍ كامل وقدرة على الاختيار، ولا نجد في غيره من الكائنات مثل ذلك، فلماذا حصل هذا التطوُّر عند النوع الإنساني دون غيره؟! أي إذا كان الإنسان على زَعمِهم يمثِّل امتدادًا طبيعيًّا لمن سبقه في سُلَّم التطور البيولوجي فلماذا خضَع الإنسان للتطور في الأخلاق دون غيره؟!

والزعم بأن أخلاق البشر تطورَت تطورًا تدريجيًّا يحتاج إلى دراسة تاريخية متعمِّقة تشمل الإنسان الأولَ إلى أن تصل للإنسان المعاصر، وتَسير الدراسة مع الإنسان سيرًا متأنِّيًا لتكشف عن سلوكه وأخلاقه خِلال الظروف والأحوال التي تحيط به.

ولا بد للدراسة أن تبيِّن هل كانت هناك مؤثِّرات خارجيةٌ غيَّرَت من سلوك الإنسان الأخلاقي، أم لا؟ والإنسان يتميَّز كلُّ فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوُها أو تجاهلها؛ فالأفراد ليسوا نُسخًا متطابقة يمكن صبُّها في قوالبَ جاهزةٍ وإخضاعُها جميعًا للقوالب التفسيرية نفسِها[13].

ويَصعب إخضاع السلوك الإنساني الأخلاقي للتجربة، والتأكُّد من صحَّة الفروض شرط أساسي من شروط المنهج العلمي؛ فإن التجربة تقتضي قدرة الباحثِ على التحديد والضبط، والتحكُّمِ في السلوك الإنساني الأخلاقي محلِّ البحث، وضبط كل المتغيرات المؤثرة فيه، ولخصوصية السلوك الإنساني فهو أمرٌ يصعب ضبطُه، ويستحيل أن يَطلب الباحث من الإنسان تَكرار السلوك الإنساني بهدف إجراء التجربة.

ولا يخضع الإنسان لمبدأ الحتميَّة التي تخضع لها الظواهرُ الطبيعية، بل يخضع للأهواء والميولات والتقلُّبات، وهذه الأمور وغيرها تجعل القولَ بأن أخلاق البشر تطورَت تطورًا تدريجيًّا - تحكُّمًا علميًّ، ومجازفةً ورجمًا بالغيب.

والزعم بأن الأخلاق تكيُّفٌ بيولوجي تطوري لتنظيم عملية التكاثر الذي يخدم بقاءنا - يجعل الأخلاق نسبيَّة غير مُطلقة، وتختفي مع النسبية أيُّ معاييرَ أخلاقية، وبالتالي تُلغَى الأخلاق فقد يكون السلوك الأخلاقي محرمًا عند شخص، ولكنه محلَّل ‏عند شخص آخر، وقد يكون السلوكُ محمودًا عند شخص، ولكنه مذموم عند شخص آخر، وقد يكون الفعل من قَبيل الرحمة عند شخص، وعند شخص آخر من قبيل القَسوة، وهذا الكلام مخالف للواقع والتاريخ.

والخير خيرٌ عند الصالح والطالح، والشرُّ شرٌّ عند الصالح والطالح، وهناك سلوكيَّات مستهجَنة عند جميع المجتمعات؛ كالسرقة والكذب والغدر والخيانة والبخل، وهناك سلوكيات مستحسَنة عند جميع المجتمعات؛ كالصدق والعدل والأمانة والوفاء والكرم.

وثَبات الأخلاق يبعث الطُّمَأنينةَ والسعادةَ في حياة الفرد والمجتمع، ولا تتأتَّى السعادة والأمن والاستقرار إذا لم يكن هناك أخلاقٌ يمارسها الفرد ويتوقَّعها من الآخرين حوله.

وفي عالَم دارون - عالم الغاب - لا يأمنُ الناسُ على أنفسهِم ولا أموالهِم ولا أعراضهِم، وكفى بذلك سببًا في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واضطراب حياةِ الناس.

والزعم بأن الأخلاق تكيُّف بيولوجي تطوري يُلغي التزام الأفراد ومسؤولياتهم وإرادتهم، ويهدم المسؤولية الأخلاقية من أساسها فلا معنى للخير والشر، ولا معنى للثواب والعقاب، ولا معنى للمدح والذم.

وفي الختام أهمس في أذن كلِّ ملحِدٍ قائلاً: إذا كانت الأخلاق قد نشأَت عن طريق التطور الداروني وتنازُع البقاء وانتخاب الأصلح - على حدِّ زعمك - فمَن الذي يصطفي هذا الخُلق دون غيره؟!

والانتخاب الطبيعي ما هو إلا وصفٌ لظاهرة، وليس هو سببَ الظاهرة، فمن الذي ينتخب ويصطفي ويختار، هل هو الطبيعة أم الانتخاب نفسه، أم شيء غير الطبيعة والانتخاب؟!

إن قلت: الطبيعة فهذا خطأ؛ لأن الطبيعة لا إرادة لها ولا اختيار، وإن قلت: الانتخاب نفسه فهذا خطأ؛ لأن الانتخابَ حدثٌ، والحدث لا بد له من مُحدِث.

فيتعيَّن أنَّ هناك شيئًا غير الطبيعة هو الذي يَصطفي ويختار، فأنت مِن هذا المنطلق تثبت شيئًا غير الطبيعة والمادة، وهذا يخالف ويناقض اعتقادك.

وإني أسأل كلَّ من يدَّعي أن الطبيعة مصدرُ الأخلاق: كيف عرَفتَ أن الطبيعة هي مصدر أخلاقك؟ هل أعلَّمَتك ذلك أم رأيتَها تعطيك الأخلاق، أم ماذا؟!

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

مراجع المقال:
1- التعريفات؛ للجرجاني.
2- الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري.
3- خرافة الإلحاد؛ للدكتور عمرو شريف.
4- علم النفس الإسلامي العام والتربوي؛ للدكتور محمد رشاد خليل.
5- علم الأخلاق الإسلامية؛ لمقداد يالجن.
6- موسوعة الأخلاق؛ لخالد عثمان الخراز.
7- موسوعة الفلسفة؛ للدكتور عبدالرحمن بدوي.
8- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري.

[1] التعريفات للجرجاني، ص 104.
[2] موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز، ص 22، 23.
[3] موسوعة الفلسفة؛ للدكتور عبدالرحمن بدوي 2/ 57.
[4] تنبيه: القول بأن الطبيعة هي أصلُ الوجود أو هي العلة الأولى للوجود قولٌ باطل لا دليلَ عليه، وإن عُني بالطبيعة الكونُ نفسه فهذا معناه أن الكونَ أصل وجود الكون؛ أي: الكون علَّة لنفسه، والشيء لا يكون علةً لنفسه، والشيء قَبل وجوده عدَم، والعدم لا يَخلُق شيئًا، وإن عُني بالطبيعة صفاتُ الأشياء فهذا التفسير أفسَدُ مِن التفسير السابق؛ لأنه إذا عجزَت ذاتُ الأشياء عن إيجاد نفسها فعجزُ صفاتها من باب أولى، وإن عني بالطبيعة القوانينُ التي تتحكم في الكون فهذا باطل؛ لأن القوانين تحتاج لمن يَسنُّها ويقنِّنها، ومن المعلوم أن الشيء لا يخلق شيئًا أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلاً ولا سمعًا ولا بصرًا، فكيف تخلق إنسانًا سميعًا عليمًا بصيرًا؟! ولو كانت الطبيعةُ هي الخالقةَ لكان الخَلق مُتساوين غيرَ متفاوتين، ومِن المُشاهَد التفاوتُ الشديد في الكائنات الحية وغير الحية، حتى بين النوع الواحد من الكائنات الحية.
[5] علم النفس الإسلامي العام والتربوي؛ للدكتور محمد رشاد خليل، ص 103.
[6] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري ج1.
[7] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري ج2.
[8] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري ج2.
[9] الإسلام بين الشرق والغرب؛ للفيلسوف علي عزت، ص 178.
[10] الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري.
[11] خرافة الإلحاد؛ للدكتور عمرو شريف، ص 305.
[12] علم الأخلاق الإسلامية، لمقداد يالجن، ص 7.
[13] الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق