الأحد، 29 نوفمبر 2015

الملحد ودعوى أن قوانين الكون قد أنشأت الكون



الملحد ودعوى أن قوانين الكون قد أنشأت الكون

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى من اتَّبعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:
فقد انتشَر في عصرنا مرَضُ الإلحاد، وهو أحدُ الأمراض الفكريَّة الفتّاكة؛ إذ يَفتِك بالإيمان ويُعمي الحواسَّ عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريضَ يجادل في البديهيَّات، ويجمع بين النقيضين ويفرِّق بين المتماثلَين، ويجعل من الظنِّ علمًا ومن العلم جهلاً، ومن الحق باطلاً ومن الباطل حقًّا.

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهلُ بالدين وضعفُ العقيدة واليقين، والاسترسالُ في الوساوس الكفريَّة، والسماعُ والقراءة لشبهات أهل الإلحاد، دون أن يكون لدى الإنسان علمٌ شرعيٌّ مؤصَّل.

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلاَّ أقوال بلا دليل، وادعاءاتٌ بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنَّها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلَّة العلم وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالَطات ودعاوى أهل الإلحاد، شبهة تلو الأخرى، ومغالطةً تلو مغالطة، ودعوى تلو دعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشُبههم.

وفي هذا المقال سنَتناول بإذن الله نقضَ دعوى الكثير من الملاحدة أنَّ قوانين الكون قد أنشأَت الكون، ونقض دعوى بعض الملاحدة أن بسبَب وجود قانون كقانون الجاذبيَّة فإن الكون يمكِنُه وسيُمكنه خلقُ نفسه من العدم، ونقْضَ قول بعضهم: نشأة الكون لم تكن سوى عواقِبَ حتميةٍ لقوانين الفيزياء، ولم يكن الكونُ بحاجة إلى إله يُشعِل فتيلاً ما لخلقه، وعلى ما يزعمون: الفيزياء الحديثة تَنفي وجود خالق للكون.

ما هي القوانين الفيزيائية؟
قبل بيان بطلان دعوى أنَّ قوانين الكون قد أنشأت الكون لا بد أن نعرف: ما هي القوانين الفيزيائية؟ فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره.

والقوانين الفيزيائية عبارةٌ عن وصفٍ لظاهرة فيزيائيَّة معيَّنة، أو سلوك معين للمادَّة، يتكرَّر تحت نفس الظروف في صورة معادلات وثوابتَ يتمُّ استنباطها من خلال دراسة تلك الظواهر، أو السلوكيات للمادة.

وتكون هذه القوانين عادةً عبارة عن استنتاجات تستَنِد إلى تجاربَ عِلمية تمَّت على مرِّ فترة زمنية طويلة، فأصبحَت مقبولةً بشكل عام ضِمن المجتمع العلمي.

وجود قانون يدل على وجود مقنِّن له
من البديهيات أن وجود قانونٍ ما، يدل على وجود مقنِّن واضعٍ لهذا القانون، سنَّ هذا القانون، وواضعُ القانون (الفاعل) لا بد أن يَسبق القانونَ (المفعول)، والكون الذي نعيش فيه محكومٌ بقوانينَ، فلا بد أن يكون لها من قنَّنها وسنَّها، فمن الذي فرض هذه القوانينَ على الكون وسنَّها؟

من الذي فرض قوانين الكون على الكون؟
بما أن أيَّ قانون لا بد له من مقنِّن سنَّه فمن الذي فرض قوانين الكون على الكون؟
والجواب: الذي سنَّ هذه القوانين التي تحكم الكون إمَّا أن يكون الكونَ نفسه، أو القوانين نفسها، أو شيء آخر خارجعن الكون.

وإن قالوا: الكون نفسه فمُقتضى قولهم أنَّ الكون يحرك نفسَه بنفسه، ولا يمكن أن يكون الشيءُ بعينه محرِّكًا لنفسه، وإلا لزم وجودُه قبل نفسه، وهذا محال.

وإن قالوا: من سن القوانينَ القوانينُ نفسُها فهذا تصويرٌ للقوانين علىأنها محرِّك، وهذا فاسد؛ لأن القوانين مجرد وصفِ سلوكٍ لظاهرة في الكون، يتكرر تحت نفس الظروف.

وإما أن يكون مَن سن القوانين شيءٌ خارج عن الكون، فهذا إثباتٌ لشيء خارج عن الكون، ونحن نقول: إنه الله.

♥العلم يعرفنا كيف تعمل الأشياء، وليس لماذا تعمل ومن الذي عَمِلها؟
مما ينبغي معرفته أنَّ العلم يعرفنا كيف تعمل الأشياء،
وليس: لماذا تعمل الأشياء؟ ومن الذي عملها؟
 أي: يعرِّفنا آليَّة عمل الأشياء، وطريقة عملها، ولا يفسِّر العلم لنا: لماذا تعمل الأشياء؟ ومَن الذي جعَلها تعمل بهذه الطريقة؟

♥فلا يبحث العلمُ عن الفاعل، بل يبحث عن الفعل، ولا يبحث عن الحادث، بل يبحث عن الحدَث، ولا يبحث عن موجِد القوانين، بل يبحث عن القوانين نفسها.

♦إدراك كيفية عمل الشيء لا ينفي وجود مسبب للشيء
مما ينبغي معرفته أنَّ إدراك كيفية عمل الشيء لا يَنفي وجود مسبِّب للشيء؛ فليس معنى أني عرفت كيف تطير الطائرة أنَّ الطائرة ليس لها مخترع ومصمِّم؛ فأنا أعلم أن للطائرة مخترعًا ومصممًا، وقد اخترع الطائرةَ الأخوان رايت - أورفيل وويلبر - وآلية عمل الطائرة لا تَنفي وجود مخترع للطائرة، ولا تنفي وجود مصمِّم للطائرة.

وليس معنى أني عرفت كيف تعمل السيارة المعتمِدة على البنزين أنَّ السيارة المعتمدة على البنزين ليس لها مخترع ومصمِّم؛ فأنا أعلم أن للسيارة المعتمدة على البنزين مخترعًا ومصممًا، ومخترع السيارة المعتمدة على البنزين هو كارل فريدريش بنز، وآلية عمل السيارة المعتمِدة على البنزين لا تَنفي وجود مخترع للسيارة المعتمدة على البنزين، ولا تنفي وجود مصمم لها.

♦وليس معنى أني عرفت كيف يعمل المصباحُ الكهربائي أن المصباح الكهربائيَّ ليس له مخترع ومصمم،
 فأنا أعلم أن للمصباح الكهربائي مخترعًا ومصممًا، ومخترع المصباح الكهربائي هو توماس ألفا إديسون، وآلية عمل المصباح الكهربائيِّ لا تنفي وجود مخترع للمصباح ومصمم له.

ومِن هنا نستنتج أيضًا
أنه ليس معنى أن العلماء قد عرَفوا كيف نشأ الكون، وأسبابَ نشأة الكون، وعرَفوا الآليات التي يعمل بها الكون:
 أن الكون ليس له موجِد، وليس له مصمِّم، وليس له مسبب سبَّب أسباب نشأته، والقول بأن معرفة العلماء كيف نشأ الكون، والآليات التي يعمل بها الكون، يُغني عن البحث عن موجدٍ للكون، ويُغني عن البحث عن سبب وجود الكون - قولٌ غير صحيح؛ إذ فيه خلطٌ بين آلية نشأة الكون، وموجِد الكون، ومسبب الكون.

ويقول الشيخ عبدالرحمن بن حَبَنَّكَة الميداني:
 "قد يعَضُّ الكلب الحجَر الذي رآه يتَّجه نحوه ليصيبه،
أما الإنسان المفكِّر فإنه يبحث عن الذي رَمى الحجر نحوه بقصدٍ، فإذا عرَفه واستبان أنه قد قصَد قتله أو إيذاءه حاول أن ينتَقِم منه؛ دفاعًا عن نفسه، ولم يفكر بالانتقام من الحجر مطلقًا.

وهنا نقول: إن الماديِّين الذين يقفون عند الأسباب الماديَّة للظواهر الكونية التي يتجلَّى فيها القصد، ولا يبحثون عن السبب الحقيقي، مع أن هذه الأسبابَ تحتاج هي أنفسها إلى أسباب تفسِّر ظاهراتها وتعلِّل حدوثها، إنما يفكرون بمثل دماغ الحيوان الذي يعَضُّ الحجر الذي قُذف عليه"[1].

إيجاد تفسير لظاهرة من الظواهر ليس معناه استبعادَ سبب الظاهرة
مما ينبغي معرفته أن إيجاد تفسير لظاهرة من الظواهر ليس معناه استبعاد سبب الظاهرة، والإقرارَ بوجود ظاهرة لا يُلغي وجود سبب لها، كما أن الإقرار بالفعل لا يُلغي وجود فاعل، وعلى سبيل المثال: لو وقعَت جريمة من الجرائم فتفسير كيفيَّة وقوعها لا يُغني عن وجوب البحث عن فاعلٍ لهذه الجريمة.

والعلماء يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمَل الكونُ بها، هم يكشفون لنا كيف تعمل القوانين في الأشياء،
ونحن نريد إجابةً عن موجد الكون، وموجِدِ القوانين التي تَحكمه[2].

لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج شيئًا للوجود
لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تُنتج شيئًا للوجود، ولا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج حدَثًا من الأحداث، بل غاية قوانين الطبيعة وصفُ العلاقة بين أحداثٍ معينة بعدما أوجدَتها الأسباب، ومَن يعتقد أن القوانين تستطيع أن تسبب شيئًا من الأشياء، كمن يعتقد أن القوانين الحِسابيَّة يمكن أن توجد مالاً، وكمن يعتقد أن القوانين التي تعمل بها السيارة يمكن أن تخلق السيارة أو تُسير السيارة دون الحاجة لمن يقودها، وهذا قول في غاية السخف والسقوط.

بطلان دعوى أن توافر الظروف لنشأة الكون أدى لنشأة الكون دون الحاجة لمسبب
القول بأن توافر الظروف لنشأة الكون أدَّى لنشأة الكون دون الحاجة لمسبِّب، والقول بأن توافر الظروف لنشأة الكون كافٍ لنشأة الكون، فلم يكن الكون بحاجة إلى إله يُشعل فتيلاً ما لخلقه - قولٌ في غاية السخف والسقوط، وهو كمن يقول: توافُر الظروف لحدوث الجريمة أدَّى لحدوث الجريمة، وعليه فليس للجريمة مرتكب!

لا تعارض بين وجود تفسير لنشأة الكون وبين وجود منشئ للكون
لا تعارض بين وجود تفسير لنشأة الكون وبين وجود منشئ للكون، كما لا تعارُض بين مخترع الشيء وآلية عمل الشيء، ووجود حدثٍ لا يَنفي وجود محدِث له، بل يؤكد على وجوده.

ولا تعارض بين وجود قوانينَ تتحكم في عمل الكون، وبين وجود خالق للكون؛ فالله يدير الكون من خلال قوانينَ قد سنَّها للكون، ولا يدير الكونَ بالمعجزات، وهذا لا يمنع من التدخل الإلهي المباشر في بعض الأحيان؛ فالله خالق القوانين، وإذا شاء أن تُعطَّل عطَّلَها.

والاعتقاد بوجود الله وأنه مسبِّب الأسباب وأنه خالق القوانين الفيزيائية، لا يَعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية أو التمرُّدَ على شيء مِن حقائق العلم الصحيح،
وإنَّما هو اعتقادٌ بأن الله هو المسبب لهذه الأسباب الطبيعيَّة، ومسبب لهذه القوانين الفيزيائية، وحتى لو سلَّمنا جدلاً أن العلم وصل إلى معرفة كل الأسباب الطبيعية وكل القوانين التي تدير الكون، فهذا لا ينفي وجود الخالق،
 بل هذه الأسباب الطبيعية وهذه القوانين دالَّة على موجدٍ لها؛ فكل سبب له مسبب، وكل قانون له مقنن، والله عز وجل مسبب هذه الأسباب الطبيعيَّة، وخالق هذه القوانين.

قانون الجاذبية وُلد بعد نشأة الكون فكيف يكون سببًا لنشأة الكون؟
مما ينبغي معرفته أن قانون الجاذبية وُلد بعد نشأة الكون؛ فبعد وقوع الانفجار العظيم، وانخفاض درجةِ حرارة الكون بشكل مُتوالٍ، وُلدت الجاذبية التي حالَت دون تبعثُر نواتج الانفجار العظيم، وعليه كيف تكون الجاذبية سببًا لنشأة الكون، وهي قد وُلدت بعد وجود الكون؟!!

هل الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكون؟
انتشر بينَ الملاحدة مقولةُ:
 الفيزياء الحديثة تنفي وجودَ خالق للكون،
وهذا إن دلَّ فإنما يدل على قلَّة علم هؤلاء الملاحدة، وضحالة مستواهم الثقافي؛
 إذ وجود الله من القضايا الإيمانية الغيبية، والقضايا الإيمانية الغيبية لا تُدرَك بالتجارب ولا المختبرات،
والعلم المادِّي لا يتدخل في القضايا الإيمانية الغيبية،
والعلم الحديث كله لا يملك دليلاً صحيحًا واحدًا يستطيع أن يُثبت عدم وجود خالق للكون،
بل الكون شاهد على وجوده سبحانه.

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

مراجع المقال:
1- خرافة الإلحاد؛ د. عمرو شريف.
2- كيف بدأ الخلق؛ د. عمرو شريف.
3- العقيدة في الله؛ د. عمر سليمان الأشقر.
4- الشرك في القديم والحديث؛ الشيخ أبو بكر محمد زكريا.
5- كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة؛ الشيخ عبدالرحمن حسن حبنَّكة الميداني.

[1] كواشف زيوف، للشيخ عبدالرحمن الميداني، ص 522.
[2] العقيدة في الله، لعمر سليمان الأشقر، ص 81.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق