السبت، 28 نوفمبر 2015

الملحد واستنكاره خلود الكفار في النار



الملحد واستنكاره خلود الكفار في النار

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتَم المرسَلين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى مَن اتبَعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرَض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتّاكة؛ إذ يَفتِك بالإيمان، ويعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض يُجادل في البدَهيّات، ويجمع بين النقيضين، ويفرِّق بين المتماثلَين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلاً، ومن الحق باطلاً، ومن الباطل حقًّا.

ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهلُ بالدين، وضعفُ العقيدة واليقين، والاسترسالُ في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد، دون أن يكون لدى الإنسان علمٌ شرعي مؤصَّل.

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوالٌ بلا دليل، وادِّعاءات بلا مستنَد، ورغم ضعفِها وبطلانها فإنَّها قد تؤثِّر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين، ولذلك كان لا بد من كشفِ شبهات ومغالطات ودعاوَى أهل الإلحاد؛ شبهةً تلو الأخرى، ومغالَطة تلو المغالطة، ودعوى تِلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشُبَههم.

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله استنكارَ الملاحدة خلودَ الكفار في النار؛ فيدَّعي الملاحدة أنَّ عقاب الكافر بالخلود في النار ليس من العدل والإنصاف في شيء، ويعلِّلون ذلك بأن عصيان الكافر كان في مدة قليلة جدًّا، لكن الخالق جعَل عذابه يستمرُّ إلى ما لا نهاية، مع أنَّ مقتضى العدل أن يعذَّب بقدر ما عَصى.

ويَسأل الملاحدة:
 لماذا هذا العقاب العظيم الأبديُّ أمام هذا الجرم الصغير المحدود؟!
ويقول أحدهم:
خلود الكافر في النار - رغم أن كفره كان مدة قليلة - كفيلٌ بأن يجعل أيَّ إنسان لا دينيًّا لو تفكَّر به بصِدق وتعمُّق، وكيف يكون العدلُ أن يُخلَّد الكافر في النار؛ لأنه عصى الله لمدة قصيرة، وهي عمره (60 عامًا مثلاً)؟!

العقاب يتناسب مع عظم الجريمة، وليس مع مدة الجريمة:
مِن الأمور التي يجب معرفتها أن العقاب لا بد أن يتناسب مع عِظَم الجريمة،
ولا يُشترط أن يتناسب مع مدة الجريمة؛ فكَم حدَثَت جرائمُ بشعة في مدد وجيزة جدًّا؛ فمثلاً يُمكِن لإنسانٍ في خلال ثوانٍ أن يقوم بقتل رجلٍ وامرأةٍ حامل وطفلٍ ورضيع،
فهل نقول: يُعاقَب هذا المجرم مدةً وجيزة؛ لأن جريمته لم تتجاوز الدَّقيقة؟!!
وهل مدة عقاب هذا القاتل الذي قتَل رجلاً وامرأة وطفلاً ورضيعًا سيكون أقلَّ مِن مدة عقاب سارقٍ ظَلَّ ساعتين يَسرق منزلاً إذا كان في بلد لا تُطبِّق حكم الإعدام على القاتل العمد؟!
 بالطبع لا؛ فجريمة القتل أعظمُ كثيرًا من جريمة السرقة.

وماذا لو شنَق رجلٌ طفلاً لا يتجاوز العاشرةَ من عمره، ومدة هذه الجريمة لا تتجاوز خمس دقائق، بينما رجلٌ آخرُ ظلَّ ساعتين يَعتدي على امرأةٍ بالضرب؛ أيُّ الجريمتين ستكون مدة عقابها أكبرَ إذا كان في بلَدٍ لا تطبِّق حكم الإعدام على القاتل العمد؟ بالطبع سيكون عقابُ جريمة قتل الطفل شنقًا أكبرَ كثيرًا من جريمة الاعتداء على امرأة بالضرب.

ويوجد الكثيرُ من الدول تطبِّق السجن المؤبَّد على من يرتكب بعض الجرائم؛ منها: القتل، والاغتصاب، والتجسُّس، والخيانة العظمى، وتجارة المخدِّرات...
فهل نقول: مدة هذه الجرائم مدة وجيزة، فكيف نحكم عليه بالسجن مدى الحياة؟!
وهل نقول: مدة هذه الجرائم مدة وجيزة، فكيف نحكم على المجرم بأن يَقضي ما تبقَّى من حياته في السجن؟!

ومن هنا ندرك أن التناسبَ يكون بين مَدى عِظَم الجريمة والعقوبةالمستحقَّة، وليس بين مدة الجريمة والعقوبة المستحقة.

عِظم إثم الكفر والشرك:
إن الكافر يَعيش في مُلك الله، وفي ظل نِعَمه، وتحتَ سمائه، وفوقَ أرضه، ومع ذلك يُنكِر وجودَه سبحانه، أو يتكبر عن عبادته، أو يَصرف العبادة لغيره؛ وهذا غايةُ المعاندة والمشاقَّة لله سبحانه وتعالى! فأيُّ إثم أعظمُ من هذا الإثم؟! وأي جُرم أعظم من هذا الجُرم؟!

وما زال الناس يَعتبرون إساءة الأدب مع كُبَرائهم وسادتهم أكبرَ عيب وأعظمَ خرق،
فلمَّا كان تبارك وتعالى أكبرَ من كل كبير، كانت إساءةُ الأدب إليه، والإشراكُ معه عيبًا ليس فوقه عيب، وخرقًا لا يفوقه خرق[1].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]،
 والظلم في الأصل: وضعُ الشيء في غيرِ موضعه، والشِّرك معناه: وضعُ العبادة في غير موضعها، وهذا أعظمُ الظلم؛ لأنهم لما وضَعوا العبادة في غير موضعها، أعطَوها لغير مستحقِّها، وسوَّوْا المخلوقَ بالخالق، سوَّوْا الضعيف بالقويِّ الذي لا يُعجزه شيء، وهل بعد هذا ظلم؟![2].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أكبرُ عند الله؟ قال:
 ((أن تدعوَ لله ندًّا وهو خلَقَك))[3]، ولا فرق بين مَن كفر بالله ومن أشرك مع الله أحدًا.

ولا أفظعَ ولا أبشع ممن سوَّى المخلوقَ من تُراب بمالك الرِّقاب، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئًا بمالك الأمر كلِّه، وسوَّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالربِّ الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوَّى مَن لا يستطيع أن يَنعَم بمثقال ذرة من النِّعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه، ولا يَصرف السُّوء إلا هو؛ فهل أعظمُ من هذا الظلم شيء؟! وهل أعظمُ ظلمًا ممن خلقَه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسِه الشريفة فجعَلها في أخَسِّ المراتب؟! جعلها عابدةً لمن لا يَسوي شيئًا[4].

وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]؛
أي: افترى جُرمًا كبيرًا، وأي ظلم أعظم ممن سوَّى المخلوقَ من ترابٍ، الناقصَ من جميع الوجوه، الفقيرَ بذاته من كل وجه، الذي لا يملك لنفسه - فضلاً عمَّن عبَده - نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا - بالخالق لكلِّ شيء، الكامل من جميع الوجوه، الغنيِّ بذاته عن جميع مخلوقاته، الذي بيده النفعُ والضر، والعطاء والمنع، الذي ما من نعمةٍ بالمخلوقين إلا منه تعالى؛ فهل أعظمُ من هذا الظلم شيء؟![5]

والشرك يتضمَّن ظلمًا؛ لأنه اعتداءٌ على المستحِق للعبادة وحدَه، وهو فسادٌ في النفوس، و(افترى) هنا تضمَّن قولاً كذبًا، وفعلاً ظالمًا، وتضمَّن أعظمَ ذنب في الوجود؛ لأنه اعتداءٌ على ربِّ العالمين[6]، وإذا كان مَن أشرَك مع الله غيرَه رغم أنه مُقرٌّ بوجود الله سبحانه وتعالى قد افترى إثمًا عظيمًا فكيف بمن أنكَر وجوده؟!

إن الكافر يجحد وجودَ الله سبحانه وتعالى وربوبيته وألوهيته، وهذا أظلمُ الظُّلم؛ ففيه إنكارٌ للحقائق الواضحةِ وضوحَ الشمس؛ إذ دلائلُ وجوده سبحانه قد مَلأَت الكون كلَّه، وفيه إنكارٌ لأعظم حق، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى وأن لا يُشرَكَ به شيء.

ويَجحد الكافرُ نِعمَ الله وفضلَه، وهذا إنكارٌ للجميل، وإنكارٌ لفضل صاحب الفضل،
وظلمٌ ما بعدَه ظلم، والنفوس الطيِّبة تشكر مَن أسدى لها معروفًا، وتمتنُّ بمن أسدى لها معروفًا، والنفوس الخبيثة تجحَد فضل صاحب الفضل، وعدمُ عرفان الجميل مِن سوء الخلُق؛ فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!!

ولو أن رجلاً ربَّى ابنه أحسن تربية، وأغدق عليه بالهدايا والعطايا، ومع ذلك رفض الابنُ طاعة أبيه، واستنكر أبُوَّته ماذا تقولون في شأن هذا الابن؟!

انظروا أيُّها الإخوةُ لمدى بَشاعة وشناعة فِعل الكافر؛ فالله قد خلَقَه وأنعم عليه بأجلِّ النِّعم، وسخَّر له ما في الأرض جميعًا؛ كي يَستعين بذلك على عبادته، وبدلاً من أن يَعبده ترَك عبادته وأنكر وجوده.

ولو أن رجلاً جاء إلى بلد ليس معه شيء؛ لا كسوة، ولا طعام، ولا شراب، ولا مال، فوجده شخص، فألبسَه وأطعمه وسقاه وأعطاه المال، ألا يستحقُّ هذا الرجل الاعترافَ له بالجميل والفضل؟!

ولله المثل الأعلى؛ جِئنا الدنيا بلا كسوة ولا طعام ولا شراب ولا مال، ورزَقنا الله من فضله الكسوةَ والطعام والشراب والمال، ألا يستحق الشكر سبحانه وتعالى؟!!

إن الكافر قد تمرَّد على خالقه؛ إذ لا يَعبده ولا يوحِّده ولا يؤدي حقَّه، وينكر وجوده وربوبيَّته وألوهيته،
 وفي هذا اعتداءٌ على حقه سبحانه وتعالى، وإساءةُ الأدب معه سبحانه وتعالى، فأيُّ جُرم أعظمُ من هذا الجرم؟! وأي ذنب أعظم من هذا الذنب؟!!

ولو أن رجلاً عاش في مملَكة، يَنعَم بهوائها ومياهها، وطعامها وشرابها، ويتعلم في مدارسها وجامعاتها، ثم لما أصبح ذا شأن أنكَر فضلها، وتمرَّد على قوانينها، وأساء الأدب إليها...
ماذا تقولون في شأن هذا الرجل؛ ألا يستحق أشد العقاب؟!!

وترْكُ عبادة الله مناقضٌ للمقصود بالخلق؛ فقد خلق الله الإنس والجن لعبادته سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فهذه الغاية التي خَلق الله الجنَّ والإنس لها، وبعَث جميع الرسل يَدْعون إليها، وهي عبادته المتضمِّنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه.

فائدة استحضار الكافر أنه سيخلد في النار إذا لم يتب من الكفر:
أخبر الله سبحانه وتعالى أنَّ مَن مات على الكفر يكون مخلدًا في النار، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 116]،
وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 68]،
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 64، 65].

وفائدة ذِكر خُلود الكفار في النَّار كفُّهم عَن الكفر، والفسادِ والعناد، والشقاقِ والنفاق[7]، ولو استحضر الكافرُ عاقبةَ كفره، وأن الله عز وجل سيُصليه نارًا خالدًا فيها فقد يَستيقظ ضميره ويؤنِّب نفسه ويتوبُ إلى الله، ومن تاب إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله يتوب عليه، وبذلك يكون ذِكر خُلود الكفار في النَّار فيه زجرٌ لمن يريد الكفر، وباعثٌ له على التثبُّت في الأمر، وإصلاحٌ للكافر واستنقاذُه من الكفر، وإرشاده من الضلالة، وكفُّه عن الكفر، وبعثُه على الإيمان.

وفي تَكرار ذِكر خلود الكفار في النار زيادةُ التحذير من الكفر، وهذا من رحمة الله بنا وحبِّه لنا؛ فالله لا يريد لنا الكفر، ولا يَرضى لنا الكفر، ويريد لنا الإيمان والتوحيد والعبادة؛ ولذلك يحذرنا من الكفر والشرك أشدَّ التحذير.

من العدل تخليد الكافر في النار:
من العدل تخليدُ الكافر في النار؛ إذ الكفر اعتداءٌ على حقِّ الله في الربوبية والألوهية، والأسماءِ والصفات، وحقُّ الله من الأمور الواجبة الاحترامِ؛ فهو الخالقُ الملِك الجبَّار، وقد خلق الله الجنَّ والإنس ليَعرفوه ويوحِّدوه ويعبدوه، ويخشَوه ويخافوه، ونصَب لهم دلائلَ وجوده ودلائل توحيده وعظمته وكبريائه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب، ولا يوجد رسولٌ إلا وقد حذَّر قومه من الشرك والكفر، ولا يوجد رسول إلا وقد بيَّن لقومه عقوبة الشرك، وعقوبةَ الكفر، والوعيدَ الشديد على الشرك والكفر.

لكن الكافر لم يعبَأ بكلام الله سبحانه وتعالى، ولم يعبأ بكلام رسُلِ الله عليهم الصلوات والتسليم، ولم يَعبأ بالوعيد الشديد، وولَّى ظهره! وهذا استهتار واستهانة، واعتداءٌ على حق الله، وذلك يَستوجب استحقاقه أشدَّ العذاب، ومن لم يعبَأ بكلام الله ووعيده فلا يلومنَّ إلا نفسه!

وليس من العدل في شيء ألاَّ ينال الكافر أشدَّ العقاب؛ جزاءً على كُفره؛ فإن في ذلك إجحافًا في حقِّ الله، واستهانة بحق الله، وتشجيعًا للناس على الكفر، ومن يُشنِّع على خلود الكافر في النار نظَر للعقوبة، ولم ينظر لعِظَم الذنب، وعِظم الجريمة، وعظم مَن عصاه.

والجزاء من جنس العمل، والجزاء ثمرة العمل،
وجزاء الإيمان الجنةُ الأبدية، وجزاء الكفر النار الأبدية،
فلْيَختَر كلُّ إنسان أيَّهما يريد، وليتحمَّل كل إنسان مسؤولية اختياره، لكن أن يَكفر الإنسان، ولا يريد أن يُعاقب أشدَّ العقاب فهذا غايةُ التبجح والكِبر والغرور!

ولو أن دولةً من الدول جَرَّمت فعلاً معينًا، وحذَّرَت منه في وسائل الإعلام أن مَن يفعله سيُعاقَب مدى حياته، ثم لم يعبأ رجلٌ بهذا التجريم والتحذير؛ ففَعل هذا الفعل المجرَّم، ولا يريد أن يعاقب مدى حياته، وادَّعى أن ذلك ظلم؛ هل يُلتفَت لكلام هذا الرجل؟! وهل يُخفف عنه العقاب؟!!

حقيقة الكافر
هو الذي ظلم نفسه بأن حرَم نفسه من نعمة الإيمان ولذَّة مُناجاة الرحمن، وأشقى نفسَه بالكفر والعصيان، وترَكَ الطريق المستقيم، والتزم طريقَ المغضوب عليهم أو الضالين.

الكافر عاش حياته الدنيا كافرًا بالله فاستحق أن يعيش حياة الآخرة في عذاب الله:
إن الكافر قد عاش حياته الدنيا في الكفر والعصيان، والإعراض عن توحيد الرحمن، فاستحق أن يعيش حياة الآخرة في عذاب الله؛ جزاءً وِفاقًا، مُوافقًا لأعماله من غير أن يُظلَم، وهذا من تمام عدل الله؛ حيث لم يُسوِّ بين مَن عاش حياته الدنيا في الإيمان والطاعة والتوحيد، ومن عاش حياته الدنيا في الكفر والمعاصي والشِّرك، ولو أن طالبًا ذاكَر بجِدٍّ خلالَ فترة الدراسة حتى نجَح في الامتحان بتفوق، فتمتع بالإجازة الصيفيَّة، وزميله لم يذاكر خلال فترة الدراسة فرسَب في الامتحان، وقضى الإجازة الصيفية في المذاكرة؛ ليدخل امتحان الدور الثاني، ولم يتمتع بالإجازة؛ هل تُلام المدرسة على عدم تمتُّع الطالب بالإجازة الصيفيَّة مثل زميله، أم يُلام هذا الطالب المستهتَر؟!

والدنيا امتحان للجنِّ والإنس في الإيمان بالله، وتوحيده وطاعته؛ فمَن آمن ووحَّد وأطاع نجح في الامتحان وفاز بالخلود في الجنة، ومن كفر وأشرك وعصى رسَب في الامتحان وعوقب بالخلود في النار، ولا يلومن إلا نفسه.

الكافر يعزم على الكفر مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق العذاب في حياة الآخرة:
الكافر يَعزم على الكفر مَهما طالت به حياتُه الدنيا، فاستحق العذاب في حياة الآخرة جزاءً وفاقًا، والمؤمن نيَّته دوامُ الإيمان بالله وطاعته مهما طالت به حياته الدنيا، فاستحق الخلود في الجنة فضلاً من الله وكرَمًا.

وسرُّ خلود أهل الجنة في الجنة، وأهلِ النار في النار:
أنَّ كلاًّ من الفريقين كان مُصرًّا على ما هو عليه؛ فأهل الجنة كانوا مريدين الإيمانَ والطاعةَ مهما طالت بهم الحياة، وامتدَّ بهم العمر، وأهل النار كانوا مصرِّين على الكفر والعصيان ولو عاشوا ملايينَ السنين، فكان الجزاء للفريقين على الإرادة والنيَّة، وبمقتضى هذه الإرادة والإصرار كان الخلود؛ إذ إن الإيمان والكفر وما يَستتبِعانه من أعمال، قد تمكَّن من النفس تمكُّنًا لا يزول.

ولقد صوَّر القرآن هذا التمكُّن، فذكر أن الكفار لو رجَعوا إلى الدنيا بعد مُعاينَتِهم العذابَ لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وسوء العمل!

﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 27، 28].

والأصل في كون الجزاء على الإرادة والنية قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))[8] [9].

من مات كافرًا فإنَّه يستمر كافرًا أبدًا:
من مات كافرًا فإنَّه يستمر كافرًا أبدًا؛ بمعنى أنَّه يَبقى حتى في البرزخ والقيامة والنار جاحدًا لبعض الأشياء الذي يُعَدُّ جَحْدها كفرًا، ومُصرًّا على الخلاف والمعصية لو وَجد إليها سبيلاً، ولا يَتوب أبدًا، وإن قال بلسانه فهو معتقِد بقلبه خلافَ ذلك؛ فلذلك - والله أعلم - يُخلَّد في النار... ويظهر لك هذا مما حكاه الله عزَّ وجلَّ عن أهل النار من دعائهم، ولا سيَّما إذا قرَنتَه بما حكاه عن أهل الجنة، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]، ليس ذلك - والله أعلم - من باب الإخبار بالغيب فقط، بل المعنى - والله أعلم - أنَّهم في نفوسهم مُزْمِعون على ذلك؛ أي: إنهم عازمون في أنفسهم أنْ لو رُدُّوا إلى الدنيا لاستمرُّوا على كفرهم وعنادهم، والله أعلم[10].

ملازمة الكفر للكفار سبب في ملازمة العذاب لهم:
الخلود في النار سببه الكفر، والحكم يَدور مع سببه وعلَّته وجودًا وعَدمًا، والكفار يُخلَّدون في النار لأنَّ صفة الكفر ملازمة لهم، فلو رُجِعوا للدنيا لَعادوا لكفرهم، فمسألة الكفر والإيمان ليست متعلقةً بقضية أنَّهم رأَوُا الحقَّ أو لم يرَوُا الحق؛ بل هي مسألةُ استكبار وعنادٍ في نفوس الكفار؛ قال تعالى: ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 28]؛ أي: بل ظهَر لهم يوم القيامة ما كانوا يَعلَمونه في أنفسهم مِن صِدق ما جاءت به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يُظهِرون لأتباعه خِلافَه، ولو فُرض أن أُعيدوا إلى الدنيا فأُمهِلوا لرَجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب، وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رُدِدنا إلى الدنيا لم نُكذِّب بآيات ربنا، وكنا من المؤمنين[11]؛ فالله يعلم أن هؤلاء المكذِّبين الذين يتمنَّون في يوم القيامة الرَّجْعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجَعوا إلى تكذيبهم وضلالهم[12].

وقال المراغي رحمه الله:
 "لو رُدُّوا - أي: الكفار - لعادوا لما كانوا فيه؛ لفقد استعدادِهم للإيمان، وأنَّ حالهم بلَغ مبلغًا لا يؤثِّر فيه كشفُ الغطاء ورؤيةُ الفزَع والأهوال"[13]، وقال أيضا: "﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28] مِن الكفر والنفاق، والكيد والمكر والمعاصي؛ فإن ذلك مِن أنفسهم، ثابتٌ فيها لِخُبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثَم لا ينفعهم مشاهدةُ ما شاهَدوا ولا سوءُ ما رأَوا"[14].

وقال الحجازي رحمه الله: "ولو رُدُّوا - أي: الكفار - إلى الدنيا لعادوا لما نُهوا عنه من الكفر والعناد وعدم الإيمان، وإنهم لقومٌ طبعُهم الكذب ودَيدنُهم العناد، ولو رُدُّوا إلى الدنيا لقالوا: ما هي إلا حياتُنا الدنيا فقط، وليست لنا حياة أُخرويَّة أبدًا، وما نحن بمبعوثين، وهكذا القوم الماديُّون؛ لا يؤمنون بالغيب، ولا يُرجى منهم خير أبدًا"[15].

وقال الشِّنقيطي رحمه الله في شأن استمرار الكافر في النار: "سببُ هذا الاستمرار هو ملازمة الخبث لذلك الكافر دائمًا، وعدمُ مفارقته له في أيِّ حال من الأحوال؛ فهو مُنطوٍ عليه لا يَزول، وباستمرار السبب الذي هو الخبث استمرَّ المسبب الذي هو العذاب، والدليل على استمرار خبثه قولُه تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 27، 28]؛ فبِدَيمومة السبب الذي هو الكفر؛ دام المسبب الذي هو العذاب"[16].

وقال ابن القيم رحمه الله: "سبب التعذيب لا يَزول إلا إذا كان السبب عارضًا؛ كمَعاصي الموحِّدين، أمَّا إذا كان لازمًا؛ كالكفر والشرك فإن أثره لا يَزول، كما لا يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذه المعنى بعَينه في مواضعَ من كتابه؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]؛ فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعَهم لا تَقتضي غيرَ الكفر والشرك، وأنها غير قابلة للإيمان أصلاً.

ومنها قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72]، فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعَماهم عن الهدى دائمٌ لا يَزول، حتى مع مُعاينة الحقائق التي أخبَرَت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يُفارقهم فإن موجِبَه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم.

ومنها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23]، وهذا يدلُّ على أنه ليس فيهم خيرٌ يَقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خيرٌ لما ضيَّع عليهم أثره"[17].
هذا، والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات.

مراجع المقال:
1- آثار الشيخ العلاَّمة عبدالرحمن بن يحيي المعَلِّمي اليماني.
2- إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد؛ صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان.
3- التفسير الميسر.
4- العقائد الإسلامية؛ لسيد سابق.
5- القضاء والقدر؛ لعمر الأشقر.
6- تفسير السعدي.
7- تفسير المراغي.
8- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح؛ لابن القيم.
9- رسالة التوحيد المسمى بـ "تقوية الإيمان"؛ للدِّهْلوي.
10- زهرة التفاسير.
11- غاية المرام في علم الكلام؛ للآمدي.
12- معارج الصعود إلى تفسير سورة هود؛ للشِّنقيطي.

[1] رسالة التوحيد المسمى بـ "تقوية الإيمان" للدهلوي، ص 90.
[2] إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان، ص 57.
[3] رواه البخاري في صحيحه رقم 4477، ورواه مسلم في صحيحه رقم 86.
[4] تفسير السعدي، ص 648.
[5] تفسير السعدي، ص 181.
[6] زهرة التفاسير 4/ 1710.
[7] غاية المرام في علم الكلام للآمدي، ص 231.
[8] رواه البخاري في صحيحه رقم 1.
[9] العقائد الإسلامية لسيد سابق، ص 307 - 308.
[10] آثار الشيخ العلاَّمة عبدالرحمن بن يحيي المُعَلِّمي اليَماني 24/ 98.
[11] التفسير الميسر.
[12] القضاء والقدر لعمر الأشقر، ص 27.
[13] تفسير المراغي 7/ 100.
[14] تفسير المراغي 7/ 102.
[15] التفسير الواضح للدكتور محمد محمود حجازي، ص 602.
[16] معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي، ص 258.
[17] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم، ص 368 - 369.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق