الاثنين، 30 نوفمبر 2015

بولس الرسول الشخصية المحورية في النصرانية (1)

بولس الرسول أو شاول الطرسوسي

الشخصية المحورية في  النصرانية (1)


يُعَدُّ بولس الرسول أحدَ أبرز الشخصيات الكنسيَّة الأولى في تاريخ النصرانية، أُطلق عليه رسول الأمم اليهودية والرومانية، وعُرف أيضًا بـ"رسول الوثنيين"[2].

وكان أكبرَ مضطهد للكنيسة في فلسطين قبل تنصُّره، ولد في طرسوس من عائلة يهودية، وانتقل إلى القدس لتعلُّم اللاهوت اليهودي، وصار معلِّمًا لأصول الدِّين، وتفرَّغ لهذه المهمة في طرسوس[3]، وقد تزعَّم بولس حملةَ ملاحقة النصارى الأوائل؛ للقضاء على النصرانية في مهدها؛ إذ حصل على تكليف بملاحقة النصارى في دمشق، وإعادتهم أسرى إلى أورشليم.

ويعدُّ أولَ داعية للنصرانية؛ إذ أخذ يبشر بالمسيح بين العرب، خصوصًا في البصرة بالشام، التي بقي فيها ثلاث سنوات 34 - 37م، وحينما عاد إلى دمشق ثانية تآمَرَ عليه اليهودُ، ورفعوا أمره إلى حاكم دمشق، الذي ربط له خارج المدينة، ثم إنه تمكَّن من الفرار إلى أورشليم، ليعود بعدها إلى طرسوس، ثم انتقل إلى أنطاكية حيث عمل بالدعوة مع برنابا، وقد بدأ سنة 45 رحلاتِه التنصيريةَ، التي استمرَّت إحدى وعشرين سنة، شملت آسيا الصغرى، وكيليكية، واليونان، وأسَّس خلالها عدةَ كنائسَ، وكتَبَ رسائلَه الشهيرة إلى أهل غلاطية وكورنثوس، ثم عاد مجددًا إلى أورشليم سنة 58م، ونَقَمَ عليه اليهودُ واتَّهموه بمخالفة الشرع، فاعتُقل ونُقل إلى قيصرية، مركز القيادة الرومانية في فلسطين، ثم أُرسل إلى قيصر روما، حيث أقام في السجن سنتين كتب فيهما أربع رسائل، وأطلق سراحه فاتَّجه شرقًا وأسس كنيسة في كريت، وعاد إلى روما سنة 67م، ليعتقل ويُعدم[4].

ويعد بولس الرسول المؤسسَ الفعلي للنصرانية المعروفة اليوم، وليس عيسى - عليه السلام - كما تُوهمنا بذلك الكنيسةُ وأناجيلها.

وهو من أعجب مغامري التاريخ؛ إذ لم يرَ عيسى - عليه السلام - ولم يعرفه، ولم يسمع منه أو من حواريِّيه، ومع ذلك فإنه يزعم أن عيسى قد ظهر له، وأعطاه الأمر بتبليغ هذه النصرانية التي نقضتْ ما فعله المسيحُ طوال حياته، وناقضت ما كان يؤمن به الحواريون والمسيحيون الأوائل[5].

إن الديانة النصرانية مِن حيثُ بنيانُها الديني الذي قدَّمه بولس الرسول - شيءٌ قابل للامتداد والتحوُّل الموضوعي، بشكل لا يستطيع أحد التنبُّؤَ بالحد الذي يقف عنده، ولا بالصورة النهائية التي يمكن أن يكون عليها هذا التحول[6].

وقبل الحديث عن مَوْلد هذه الشخصية وصفاتها، لا بد من الإشارة إلى السبب الذي جعلني أهتمُّ بتعريفها، وهو أن "لبولس هذا شأنًا في النصرانية؛ فهي تُنسب إليه أكثرَ مما تنسب لأحد سواه"[7]، فعلى الرغم من أن الديانة النصرانية تأخذ اسمَها من عيسى المسيح، فإن بولس الطرسوسي هو مؤسِّسها الحقيقي[8].

واستحق بذلك أن يكون من الذين أثَّروا في تاريخ البشرية بشكل جلي وواضح؛ لذا يقول مايكل هارت: "ليس هناك شخصٌ لعب دورًا من الضخامة، كالدور الذي لعبه بولس في إشاعة النصرانية"[9]، ولأنه الشخص الذي اختمرتْ في ذهنه جلُّ العقائد الوثنية، وأقام كنائسها في العالم[10]؛ بل إنه يصرح قائلاً: "إنه الوحيد الذي اؤتُمن على المسيحية الصحيحة، وعلى إنجيل مجد الله المبارك، وأن كل مَن يخالف قولَه من تعاليمَ باطلٌ دنس"[11].

بل هناك من وصَفَه قائلاً: "لقد كان لهذا اليهوديِّ الخبيث، الذي دخل النصرانية - دورٌ كبيرٌ في تحطيم الاتِّجاهات الصحيحة للمسيحية"[12]، فجعلها مبهمةً وغامضة ومتضاربة[13]، وبعيدةً عن جوهر التوحيد[14].

كما أنه يُعَد المفصلَ الرئيس في تاريخ النصرانية كلِّها، ونقطةَ التحوُّل البارزة في النصرانية من دين التوحيد إلى التثليث، وعلامة رئيسة بين عهدين: عهد البساطة والمحلية، وعهد الانطلاق إلى العالمية، ويعزون هذا التحول التاريخي إلى ما يعتبرونه أعظمَ رسل النصرانية، وأخطرهم شأنًا على الإطلاق، وهو بولس، ذلك الرسول الذي ميَّز بشكل حاسم بين صورتين للمسيح: "صورة مسيحِ النشأة، الذي كان بشرًا رسولاً، يدعو اليهود إلى التمسك بالناموس، ومسيحِ التطور أو الانطلاق، الذي أعلن عن ألوهيته، وكشف عن سر موته وقيامته، باعتباره تكفيرًا عن خطايا البشر"[15].

إضافة إلى هذا كله، فهو كاتب الرسائل الأربع عشرة الواردة في الإنجيل، وتُسمَّى بالأسفار التعليمية، وهي مصدر من المصادر التشريعية في الديانة النصرانية[16].

وعلى الرغم من أهمية بولس الرسول في التاريخ الكنسي، إلا أنه لا يُعرف تاريخُ ميلاده على وجه الدقة، وأقدَمُ إشارةٍ له في الإنجيل هي ظهوره بعد رفع المسيح - عليه السلام - باعتباره أحدَ اليهود المتعصِّبين، المُفْرِطين في عدائهم لدعوة المسيح، وقضى شبابَه في اضطهاد أتباعه وتلاميذه، ومطاردتهم والبطش بهم، في قسوة قلَّ نظيرُها.

ثم فجأة، ودون تمهيد، حين بلغ السابع والثلاثين من عمره[17]، "وبطريقة مريبة، يبدو أنه خطط لها مع حنانيا"[18]، يعلن إيمانه بالمسيح؛ بل ورسولاً منه إلى العالم، ومكرزًا بإنجيل خاص به، تلقَّاه بإلهام من المسيح نفسه، بتعاليم جديدة مخالفة تمامًا لما عرفه الناس والحواريون، وأهمُّ تلك التعاليم - التي كانت بكل معنى الكلمة انقلابًا تامًّا، وقاعدة لدين جديد - يقوم على دعامتين: الأولى: إعلان إلهية عيسى - عليه السلام - والثانية: أن موت عيسى وصلْبَه كان تكفيرًا عن خطايا البشر[19].

لقد كان بولس يجمع المجدَيْنِ - كما يقول - فهو يهوديٌّ رومانيٌّ، وكان يعترف بأنه رجل حربائي يلبس لكل حالٍ ما يناسبه؛ فهو يهودي مع اليهود، وروماني مع الرومان، وقد دلَّتْ سيرةُ حياته على أنه لاعبٌ مراوغ من الطراز الأول، وأنه بذلك استطاع أن ينتصر على كل ما فعله المسيح على الأرض، وأن يجعل من عقيدته دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية[20].

وهو أحد الشخصيات الأساسية التي لا بد من ذِكرها كلما أردنا الحديث عن النصرانية، فـ"لم يكن بولس حاخامًا فريسيًّا على الإطلاق؛ بل كان مغامرًا من أصل غير واضح، وكان في خدمة الصدوقيين، يمارس مهمات أمنية (بوليسية) لخدمة الراهب الأكبر، وذلك قبل اعتناقه الدين النصراني، ولم يكن يعرف تعاليم الفريسيين معرفة جيدة، ولقد شوَّه بولس سيرةَ حياته عمدًا؛ ليزيد نشاطه التنصيري فعالية"[21].

إن النصارى يعتقدون أن عيسى هو الذي أسَّس ديانتهم؛ ذلك لأن أحداث حياته هي التي أرستْ دعائمَ النصرانية؛ لكنهم يعتبرون أن بولس هو المفسِّر الحقيقي لمهمة عيسى، وأنه هو الذي فسر بطريقة خاصة، لم نجدها عند عيسى أبدًا[22].

كل هذه الأمور تجعلني أرى أن الإلمام ببعض المعلومات عن هذه الشخصية ضروريٌّ لكل دارس للديانة النصرانية؛ لذا سأحاول الوقوف على ذِكر أصل هذه الشخصية، وصفاتها، وبعض مبتكراتها التي أدخلتها في الديانة النصرانية.

للوهلة الأولى يبدو من خلال العهد الجديد أن هناك معلوماتٍ كثيرةً عن هذه الشخصية، غيرَ أننا حين نتحقق منها ونفحصها، يظهر الاضطراب والتناقض في جلها[23]، ويمكن تقسيم هذه المعلومات إلى مصدرين: الأول: يذكره بولس عن نفسه في الرسائل التي خلفها[24]، والثاني: ما يقوله سفر أعمال الرسل بشأنه[25].

وقد استند في تأسيسه للدين النصراني إلى أسطورة أساسية تقول: "بموت كائن إلهي؛ للتكفير عن خطايا البشر، وإن الخلاص الوحيد هو الإيمان بهذه التضحية والتوحيد الديني بها"[26].

وهو بذلك لم يكسب غضبَ أتباع المسيح فقط؛ بل أغضب اليهودَ أيضًا؛ لأنها قاعدة تناقض تعاليم المسيح وموسى معًا؛ ولذلك "يتضح سبب اختياره نشر تعاليمه بين الذين كانوا يكرهون اليهود ولم يسمعوا عن حقيقة المسيح"[27].

والديانة النصرانية - كما نعرفها اليوم - تقوم على الأسس اللاهوتية التي وضعها لها الرسول بولس بين العامين 40 و67م تقريبًا؛ إذ إن بولس هو أول مَن قال بأن "المسيح"[28] "صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة، فيه خلق الكل ما في السموات والأرض... الكل به وله خلق، الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل"[29].


[1] مسؤول الأنشطة العلمية بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، أستاذ زائر بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور، المملكة المغربية، البريد الكتروني: mSarrouti.med@hotail.com
[2] "أطلس الأديان"، سامي بن عبدالله بن أحمد المغلوث، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة: الأولى، السنة: 2007، ص: 220.
[3] مدينة كانت تعج بالمبادئ والأفكار الفلسفية، انظر موقعها في الخريطة المدرجة في الملاحق، الصورة رقم: 1، الدائرة في الخريطة تبين موقع هذه المدينة.
[4] المرجع نفسه.
[5] "بولس وتحريف المسيحية"، هيم ماكبي، ترجمة: سميرة عزمي الزين، منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية، ص: 7، 8.
[6] "تحقيق القول في تحول بولس"، حمدي عبدالعالي، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، السنة: السابعة، العدد 16، 1410 - 1990، ص: 21.
[7] "محاضرات في النصرانية"، محمد أبو زهرة، م س، ص: 72.
[8] "نظرة عن قرب في المسيحية"، بربارا براون، ترجمة: مناف حسين الياسري، ط: 1993، ص: 20، "الحق والخلق والفرق في القرآن الكريم"، طلال غزال، ط:1، 1999، ص: 223، "مذاهب فكرية معاصرة"، محمد قطب، ط:7، 1993، ص: 12.
[9] "المائة: تقييم الأشخاص الأكثر أهمية في التاريخ"، مايكل هارت، ترجمة: أنيس منصور، المكتب المصري الحديث، ص: 35.
[10] "نظرة عن قرب في المسيحية"، بربارا براون، ترجمة: مناف حسين الياسري، م س، ص: 21.
[11] "الكتب المقدسة في ميزان التوثيق"، عبدالوهاب عبدالسلام طويلة، م س، ص: 118.
[12] "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: أشغال الندوة العالمية للشباب الإسلامي"، ط: 1، 1988، ص: 500.
[13] "التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء"، عبدالعزيز الكحلوت، ط: 2، سنة: 1992م، ص: 11 بتصرف.
[14] "الجانب المظلم في التاريخ المسيحي"، هيلين إيليربي، ترجمة وتقديم: سهيل زكار، دار قتيبة - دمشق، السنة: 2005، ص: 8، المقدمة.
[15] "تحقيق القول في تحول بولس"، حمدي عبدالعالي، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، م س، ص: 21.
[16] "أشغال الندوة العالمية للشباب الإسلامي: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة"، م س، ص:501، بتصرف.
[17] "تحقيق القول في تحول بولس"، حمدي عبدالعالي، م س، ص: 21.
[18] "الكتب المقدسة في ميزان التوثيق"، عبدالوهاب عبدالسلام طويلة، م س، ص: 118.
[19] "تحقيق القول في تحول بولس"، حمدي عبدالعالي، م س، ص:21.
[20] "بولس وتحريف المسيحية"، هيم ماكبي، م س، ص: 13.
[21] "بولس وتحريف المسيحية"، هيم ماكبي، م س، ص: 28.
[22] المرجع نفسه، ص: 9.
[23] نفسه.
[24] وهي الأسفار التعليمية.
[25] "البحث عن يسوع: قراءة جديدة في الأناجيل"، كمال الصليبي، دار الشروق: عمان، ص: 97، 98.
[26] "بولس وتحريف المسيحية"، هيم ماكبي، م س، ص: 29، 30.
[27] "عيسى المسيح والتوحيد: عرض تاريخي للمسيحية والأناجيل والموحدين المسيحيين الأوائل والأواخر"، محمد عطا الرحيم، ترجمة عادل حامد محمد، منشورات: مركز الحضارة العربية، ص: 71.
[28] "البحث عن يسوع"، كمال الصليبي، م س، ص: 97.
[29] كولوسي: 1 : 15 17.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق