الأحد، 29 نوفمبر 2015

يا ملحدُ إن لم تَتُبْ ستُعذَّب في الآخرة !



نعم ستُعذَّب في الآخرة يا ملحدُ إن لم تَتُبْ!

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرِّقُ بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.

ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهل بالدين، وضعف العقيدة واليقين، والاسترسال في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل، وادعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد، شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشُبَهِهم.

وفي هذا المقال سنتناول - بإذن الله - الرد على سؤال سأله أحد الملاحدة العرب في مدونته الكفرية،
 وهذا السؤال هو: "هل سيُعذَّب في الآخرة؟"،
 وقد ذكر السؤال خلال كلامه بصيغة أخرى، وهي:
 "هل مَن سيعذبون يوم القيامة أو ينعمون هم من كانوا يعيشون على الأرض أم نسخ أخرى لمخلوقات مخلوقة لغرض التنعيم أو العذاب؟"،
 ورجَّح هذا الملحد
أن النعيم أو العذاب سيقع لمخلوقات جديدة، مستنسخة من البشر، مخلوقة لغرض التنعيم أو العذاب، واستدل على فِرْيَتِه بأن المشاهد أن من يموت يهلِكُ ويتحلل، ومن ثم فمن سينعم أو يعذب مخلوق جديد مستنسخ من الإنسان الذي مات، وليس الإنسان نفسه.

وعلى كلامه الخاطئ يعترض هذا الملحد على قوله تعالى:
 ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24]،
ويقول: "كيف يقول القرآن: إن أيديَهم وأرجلهم ستشهد عليهم بما كانوا يكسبون، وهي أيدٍ وأرجُلٌ جديدة لم تكن في الدنيا، ولم ترتكب أي شيء، وعيون لم ترَ شيئًا، وآذان لم تسمع شيئًا؟! بل هو كائن آخر جديد مزود بنسخة لذكريات كائن آخر كان يعيش في عالم آخر ليعذب هو بما فعله هذا الكائن الآخر للأبد".

وقد قال الملحد بمثل ما قال الكفار الأولون، واستدل بمثل ما استدل به الكفار الأولون؛ فقد ذكر الله سبحانه وتعالى مقولة قوم عاد:
﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 35 - 37]،
 وقال تعالى مبينًا مقولة منكري البعث من كفار مكة:
﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 81 - 83]،
وجاء أُبَيُّ بن خلف بعَظْم نخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يَذْرُوه في الريح، فقال: أيحيي الله هذا يا محمد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم يحيي الله هذا، ويميتك، ويدخلك النار))[1].

ومن هنا ندرك أن إنكار الكفار - قديمًا وحديثًا - للبعث سببُه استبعادهم إعادة الأجسام بعد الموت بعد أن تصير ترابًا وعظامًا على ما يعهد من عادة البشر، فيقولون: كيف يبعث الإنسان بعد أن بَلِيَ وصار ترابًا وعظامًا؟! وهو استبعاد ناشئ عن جهلهم بقدرة الله، وعلم الله، وقياسهم قدرة الخالق على قدرة المخلوق، وعلم الخالق على علم المخلوق.

وقد ذكر القرآن شبهة منكري البعث، ورد عليها بأبلغ رد، وأقوى رد في العديد من الآيات،
 منها قوله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 78 - 83].

ومعنى الآيات أن هذا الكافر ذكر أمرًا عجيبًا ينفي به قدرة الله عز وجل على إحياء الخلق، فقال: مَن يُحيي العظام وهي رميم؟ ونسي خَلْقَ الله عز وجل له، أفلم يكن هذا المجادل في يوم من الأيام نطفة من ماء مهين فجعله الله خَلْقًا سويًّا ناطقًا؟! ولا شك أن مَن فعل ذلك لا يُعجِزُه أن يعيد الميت حيًّا، والعظام الرميم بشرًا كهيئته التي كان عليها قبل الموت.

وقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هذا الكافر المنكر للبعث عن استبعاده لإعادة الأجسام بعينها بعد الموت بعد أن تصير ترابًا وعظامًا بتذكيره بما نسِيَه من حقيقة أمره، وخَلْقِه من العدم،
فقال: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 79]؛ أي: قل يا محمد لمن قال لك: مَن يحيي العظام وهي رميم؟ يُحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئًا.

ولما كان الخَلْق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق، وعلمه بتفاصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 79]، فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته، ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم، كامل القدرة، كيف يتعذَّرُ عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟[2]،
كيف يعجِزُ عن إعادة العظام بعدما تفرقت وهو - سبحانه وتعالى - يعلم كيف يخلُقُ الأشياء، وكيف يكوِّنها، ويعلم أجزاء العظام بعد تفرقها، ويعلم أين ذهبت تلك الأجزاء، وكيف تفرقت؛ فلا يعجِزُ عن إعادة خلقه لها، وجمع هذه الأجزاء المتفرقة إلى ما كانت عليه قبل ذلك؟!

وقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هذا الكافر المنكر للبعث عن استبعاده لإعادة الأجسام بعينها بعد الموت بعد أن تصير ترابًا وعظامًا بتذكيره بما نسِيَه من حقيقة أمره، وخَلْقِه من العدم،
فقال: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 79]؛ أي: قل يا محمد لمن قال لك: مَن يحيي العظام وهي رميم؟ يُحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئًا.


وبعد الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، ذكر سبحانه وتعالى دليلًا ثانيًا على إثبات البعث، يرفَعُ استبعاد هذا المجادل بالباطل، ويُبطِل إنكاره، فقال: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ [يس: 80]، فأخبَر سبحانه بإخراج هذا العنصر (النار)، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة؛ فالذي يخرج الشيء من ضده، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه - هو الذي يفعل ما أنكره الملحدُ ودفَعَه؛ من إحياء العظام وهي رميم[3]، فإذا أخرج النار اليابسة من الشجر الأخضر الذي هو غاية الرطوبة، مع تضادهما وشدة تخالفهما، فإخراجه الموتى من قبورهم مِثلُ ذلك[4].

وفي قوله تعالى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ [يس: 80]، قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ، وللأخرى: العفار، فمن أراد منهما النار، قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان، يقطران الماء، فيسحق المرخ على العفار، فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى[5].

وبعد الاستدلال بإخراج النار من الشجر الأخضر، ذكَر سبحانه وتعالى دليلًا ثالثًا على إثبات البعث، يرفع استبعاد هذا المجادل بالباطل،
 ويُبطل إنكاره، فقال: ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81]،
 فاستدلَّ بخَلْقِ السموات والأرض على القدرة على البعث؛ فإن خَلْقَ مثلكم من العظام الرميم ليس بأعظمَ من خلق السموات والأرض؛
 كما قال تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 57]، ومن لم يتعذَّرْ عليه خَلْقُ ما هو أعظم مِن خَلْقِكم، فكيف يتعذَّرُ عليه إحياء العظام بعدما قد رمَّتْ وبَلِيَتْ؟![6].

وإذا نظرنا إلى السموات السبع وما فيها من خَلْق عجيب، وإلى الأرض وما فيها كذلك، ونظرنا إلى الإنسان - فإننا نجده لا شيء إذا قوبل بالسموات والأرض، فنحكُم بأن مَن خلَق السموات والأرض على عِظَمِها قادر من باب أَوْلى على خلق الإنسان مرة أخرى بعد موته وبِلاه وفَنائه[7]؛
كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأحقاف: 33]؛ أي: مَن قدر على خلق السموات والأرض وهما في غاية العِظَم قادرٌ من باب أَوْلى على إعادة خلق الإنسان؛ إذ القادرُ على الأعلى قادرٌ على ما دونه!

وبعد الاستدلال بخلق السموات والأرض على القدرة على البعث، ذكر سبحانه ما هو كالنتيجة لِما سبق مِن تقرير واسع قدرته، وإثبات عظيم سلطانه، فقال: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]؛ أي: إنما شأنُه سبحانه وتعالى في إيجادِ الأشياء أن يقول لما يريد إيجادَه: تكوَّنْ، فيتكوَّنُ ويحدُث فورًا بلا تأخير؛ فالله عز وجل لا يستعصي عليه شيء أراده، فلا يستعصي عليه إعادةُ خَلْق الإنسان مرة أخرى.

وبعد أن أثبت سبحانه وتعالى لنفسه القدرة التامة، والسلطة العامة، نزَّه نفسَه عن العيب والنقص، والأوهام الفاسدة، والظنون الكاذبة، فقال: ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [يس: 83]؛ أي: تنزَّهَ ربُّنا عن كل سُوء.

وقوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83]؛ أي: وإليه يرجع العباد يوم المعاد، فيُجازي كلَّ عامل بما عمل، وهو العادل المُنعِم المُتفضِّل[8].

ومن أدلة القرآن على إثبات البعث أيضًا:
قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39]، فمَن يقدِر على إحياء الأرض بعد موتها، يقدِر أيضًا على بعث الأجساد بعد موتها!

وإن قال الملحد:
كيف يُحيي الله الإنسان من جديد بعد أن يضمحلَّ ويتلاشى بدنُه، فيستحيل إعادة الإنسان بعد أن يصير عدَمًا؟
والجواب: أن الملحد - هداه الله - يعتقد بأن حقيقة الإنسان هي عبارة عن هذا البدن المادي الذي يهلِكُ ويتلاشى بالموت، وإذا رُدَّتْ له الحياة من جديد بعد الموت، فهو إنسان آخرُ، لا هو عين الأول؛ لأن إعادة المعدوم أمرٌ محال.

وهذا لجهله أن المعادَ ليس من باب إعادة المعدوم، بل عودة الروح الموجودة إلى نفس الجسد المادي الذي كانت متصلة به مرة أخرى؛ فالبعث إعادة، وليس خَلقًا جديدًا، البعث إعادة لما زال وتحول؛ فإن الجسد يتحول إلى تراب، والعظام تكون رميمًا، يجمع الله تعالى هذا المتفرق، حتى يتكون الجسد، فتعاد الأرواح إلى أجسادها، وأما من زعم بأن الأجساد تُخلَقُ خَلقًا جديدًا، فإن هذا زعمٌ باطل بنصِّ القرآن؛ قال تعالى: ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ [الأعراف: 29]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24]، وهذه الآية تدل صراحة على أن جوارح الإنسان التي كانت في الدنيا من لسان ويدين ورِجْلين هي نفس التي تبعث يوم القيامة، فتشهد عليه بما اقترف من أعمال؛ إذ الشاهد يكون حاضرًا على ما يشهد به، مما يدل على أن هذه الجوارحَ التي تشهد على الإنسان، هي الجوارح التي كانت موجودةً في الدنيا بعينها، لا جوارح جديدة.

وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن في الإنسان عَظْمًا لا تأكله الأرض أبدًا، فيه يُركَّبُ يوم القيامة))،
قالوا: أيُّ عَظْمٌ هو يا رسول الله؟ قال: ((عَجْبُ الذَّنَبْ))[9]، فقوله: "فيه يُركَّبُ"؛ أي: يعودُ الجسم إلى ما كان عليه، بعدما دُفِن في قبره وأكلَتْه الأرض، مما يدل على أنه نفس الجسد الذي كان في الدنيا.

وإن قال قائل:
فما فائدة إبقاء عَجْبِ الذَّنَبِ دون سائر الجسد؟
 فقد أجاب ابن عقيل فقال:
 لله سبحانه في هذا سرٌّ لا نعلمه؛ لأن مَن ينحت الوجود من العدم لا يحتاج أن يكون لفعله شيء يبني عليه، فإن علل هذا، فيجوز أن يكون الباري سبحانه جعل ذلك للملائكة علامة على أنه يحيي كل إنسان بجواهره بأعيانها، ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء عَظْمٍ من كل شخص؛ ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى تلك الأعيان التي هذا جزء منها، كما أنه لما أمات عُزَيرًا وحماره، أبقى عظام الحمار وكساها؛ ليعلم أن هذا المُنشَأَ ذلك الحمارُ لا غيره، ولولا إبقاء شيء، لجوَّزت الملائكة أن تكون الإعادة للأرواح إلى أمثال الأجساد لا إلى أعيانها[10].

وإن استدل البعض بأن أشكال الناس وقاماتهم ستغير في الآخرة على أن الأجسام تُخلَق خَلقًا جديدًا، فهذا لا يصح؛ لأن تغيُّرَ هيئة الشخص ليس معناه تحوله لشخص آخر، ومعلوم أن من رأى شخصًا وهو صغير، ثم رآه وقد صار شيخًا، علم أن هذا هو ذاك، مع أنه دائمًا في تحلل واستحالة، وكذلك سائر الحيوان والنبات، فمن رأى شجرة وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة، قال: هذه تلك[11].

لقد جَهِل الملحدُ حقيقة الإنسان أنها من رُوح وبدن،
وأن الروح باقية لا تنعدم، وإنما كانت متلبسة بالبدن ثم تفارقه عند الموت، وأما البدن فإنه لا ينعدم، وإنما يتحلل إلى عناصره بعد أن كان مركبًا، والتحلل إلى العناصر الأصلية لا يسمى عدمًا، فلو فرضنا أن مهندسًا فكك سيارة بصورة تامة إلى أجزائها الأولية، ثم أعاد تركيبها، فهل هذا يسمى عدمًا للسيارة؟! فتحصَّل لدينا أن الموت لا يعني عدم الإنسان، أما الروح فهي باقية، وأما البدن فهو يتحلل إلى عناصره، ولا تنعدم هذه العناصر.

وإذا قيل:
 ربما تأكل السباع الإنسان، ويتحول جسمه الذي أكله السبع إلى تغذية لهذا الآكل تختلط بدمه ولحمه وعظمه، وتخرج في روثه وبوله، فكيف يعاد هذا الجسد؟
والجواب:
أن الأمر هَيِّنٌ على الله؛ يقول للشيء: كُنْ، فيكون، ويتخلَّص هذا الجسم الذي سيبعث من كل هذه الأشياء التي اختلط بها، وقدرة الله عز وجل فوق ما نتصوره؛
فالله على كل شيء قدير،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن رجلًا حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مِتُّ، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا، حتى إذا أكلت لحمي، وخلصت إلى عظمي فامتُحِشَتْ، فخذوها فاطحنوها، ثم انظروا يومًا راحًا، فَاذْرُوهُ في اليم، ففعلوا،
 فجمَعه الله فقال له: لمَ فعلتَ ذلك؟ قال: مِن خشيتك، فغفر الله له))[12].

وإن قال الملحد:
 لا أتصور إعادة جسدي بعدما يهلِكُ ويتحلل، والحكم على الشيء فرع عن تصوره،
فالجواب:
عدم تصوُّرِك إعادةَ جسدك بعدما يهلِكُ ويتحلل لا يعني امتناعه في نفسه؛ فقد تعجِزُ العقول عن تصور أمور كثيرة؛ كعجزها عن تصور حقيقة العقل رغم أنه داخلنا، ولا يمكن أن نفكر بلا عقل، وعجزها عن تصور حقيقة الروح رغم أنها بداخلنا، فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان، وألصقها به - فهل يطمَعُ الإنسان أن يُخضِعَ بعقله أفعال الله سبحانه لقوانين البشر وقدراتهم؟! والشيء الذي لا نشاهده في الواقع الحسي لا يلزم عقلًا أن يكون غير ممكن الوجود؛ فعدمُ الوجود لا يدل على استحالة الوجود.

وختامًا أذكِّر هذا الملحد
 بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 116]،
وقوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 68]،
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 64، 65].

هذا، والحمدُ لله الذي بنعمته تتم الصالحات..

[1] انظر تفسير عبدالرازق 3/ 87 رقم 2498، وتفسير مقاتل بن سليمان 4/ 30.
[2] شرح الطحاوية لابن أبي العز 2/ 594.
[3] شرح الطحاوية لابن أبي العز 2/ 595.
[4] تفسير السعدي ص 699.
[5] اللباب في علوم الكتاب لابن عادل 16/ 267.
[6] تفسير الطبري 20/ 556.
[7] أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري 4/ 395.
[8] تفسير المراغي 23/ 39.
[9] رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 2955.
[10] كشف المشكل من حديث الصحيحين 3/ 454.
[11] شرح الطحاوية لابن أبي العز 1/ 411.
[12] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 3479.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق