الأحد، 29 نوفمبر 2015

الملحد ودعواه أن الإسلام يبيح النفاق



الملحد ودعواه أن الإسلام يبيح النفاق في سبيل الحفاظ على الحياة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.

ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهل بالدين، وضعف العقيدة واليقين، والاسترسال في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل، وادعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد، شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشُبَههم.

وفي هذا المقال سنتناول - بإذن الله - دعوى بعض الملاحدة أن الإسلام يبيح النفاق في سبيل الحفاظ على الحياة، واحتج أحدهم بقوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28]، وبقوله تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، واستنتج، بناءً على هذه الدعوى، أن الخالق - عز وجل - عاجز عن حماية أتباعه من أي ضرر يصيبهم في حالة إعلانهم عن عقيدتهم - تعالى الله عما يقول الظالمون، وقد وجدت نفس هذه الشبهة في إحدى مواقع التنصير، ولعل الملحد اقتبس شبهته منها.

منشأ الشبهة:
كلام الملحد - هداه الله - أن الإسلام يبيح النفاق في سبيل الحفاظ على الحياة: ينُمُّ عن عدم تفريقه بين النفاق والتقيَّة، والنفاق مذموم في كل حال، والتقيَّة جائزة في حالات معينة، والملحد توهم أن التقيَّة الجائزة شرعًا من جنس النفاق؛ لاشتراكهما في صفة إظهار الإنسان لشيءٍ على خلاف ما يُبطن.

وكي يتضح زيف هذه الشبهة لا بد من بيان مفهوم النفاق، ومفهوم التقيَّة، والفرق بينهما، ثم بيان أن إباحة الإسلام للتقية الجائزة شرعًا يُعَد من محاسن الشريعة الإسلامية، وبيان أن الرجل لا يعد منافقًا إذا تظاهر بشيء لينجو من بطش ظالم، وبيان أن الله - سبحانه وتعالى - لا يعجز عن حماية أوليائه.

مفهوم النفاق لغة واصطلاحًا:
والنفاق لغة: مصدر نافق، يُقال: نافق نفاقًا ومنافقة، ونَافق اليربوع نفاقًا ومُنافقة دخل في نافقائه، وفُلان أظهر خلاف ما يبطن[1]، والنفاق إما مأخوذ من النفق أو النافقاء، والنفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان، والنافقاء: موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا أُتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق؛ أي: خرج منه، ويقال: نفق اليربوع من جحره، قالوا: ومنه اشتقاق النفاق؛ لأن الإيمان يخرج من قلبه، أو يخرج هو من الإيمان[2].

والنفاق في اللغة من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان خلافه [3].

ومادة نفق: تدل على الإخفاء وعدم الإظهار؛ ولذلك سمي السرب في الأرض الذي له مخلص إلى مكان آخر نفقًا، وسمي أحد جحري اليربوع النافقاء والنفقة؛ لأنه يكتمه ويظهر غيره، فإذا طلب من مخرج هرب إلى الآخر، وخرج منه، وسمي النفاق بهذا الاسم؛ لأن صاحبه يكتم خلاف ما يُظهر، فكأن الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء.

والنفاق اصطلاحًا: إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر بالقلب[4]، وهذا التعريف ينطبق على النفاق الاعتقادي، وقيل: النفاق هو إظهارُ الإسلام والخير، وإبطانُ الكفر والشر، سمي بذلك؛ لأنه يدخل في الشرع من باب، ويخرج منه من باب آخر، وعلى ذلك نبه الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67]؛ أي: الخارجون من الشرع [5]، وقيل: النفاق هو أن يظهر المرء ما يوافق الحق، ويبطن ما يخالفه؛ فمن أظهر أمام الناس ما يدل على الحق، وكان حقيقة أمره أنه على باطل من الاعتقاد، أو الفعل، فهو المنافق، واعتقاده أو فعله هو النفاق [6]، وقيل: النفاق هو التظاهر الكاذب بالفضيلة والتمسُّك بالدين مع إبطان الرذيلة ومخالفة الدين.

وأساس النفاق الذي بني عليه هو الكذب، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه، كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم[7].

أقسام النفاق:
والنفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: النفاق الأكبر - وهو النفاق الاعتقادي، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.

والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل - أي النفاق العملي، وهو أن يظهر الإنسان علانيةً صالحةً، ويبطن ما يخالف ذلك[8].

ومن أعظم خصال النفاق العملي: أن يعمل الإنسان عملًا، ويظهر أنه قصد به الخير، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سيئٍ، فيتم له ذلك، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه، وحمد الناس له على ما أظهره، وتوصل به إلى غرضه السيئ الذي أبطنه [9].

ومن الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر ما يلي:
1- أن النفاق الأكبر يخرج من الملة، والنفاق الأصغر لا يخرج من الملة.

2- أن النفاق الأكبر: اختلاف السر والعلانية في الاعتقاد، والنفاق الأصغر: اختلاف السر والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد.

3- أن النفاق الأكبر لا يصدر من مؤمن، وأما النفاق الأصغر فقد يصدر من المؤمن.

4- أن النفاق الأكبر في الغالب لا يتوب صاحبه، ولو تاب، فقد اختلف في قبول توبته عند الحاكم، بخلاف النفاق الأصغر؛ فإن صاحبه قد يتوب إلى الله، فيتوب الله عليه[10].

مفهوم التَّقيَّة لغة واصطلاحًا:
والتقيَّة لغة من الاتقاء، وأصل الاتقاء: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بالترس؛ أي: جعله حاجزًا بينه وبينه، واتقاه بحقه أيضًا كذلك، ومنه الوقاية، ويقال: وقاه، ومنه التقيَّة[11]، ووقى الشيء وقايةً: إذا صانه بوقاء، ووقاه الله تعالى؛ أي: حفظه ومنعه[12]، واتقى الرجل الشيء يتقيه، إذا اتخذ ساترًا يحفظه من ضرره.

والتقاة والتقيَّة والتقوى والاتقاء كله واحدٌ[13]، وأصل المادة: المنع، كالذي يتقي البرد بالملابس، ويتقي عذاب الله بالطاعة، ويتقي سهام العدو بالدرع، والتقيَّة بهذا هي اتخاذ ما يمنع المكروه، أو هي الشيء الذي يتخذ لمنع المكروه.

والتقيَّة اصطلاحًا: الحذر من إظهار ما في الضمير من العقيدة ونحوه عند الناس[14]، وقيل: التقيَّة الحذر من إظهار ما في النفس من معتقدٍ وغيره للغير[15]، وقيل: التقيَّة أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره، وإن كان يضمر خلافه [16]، ومن هنا يتبين أن التقيَّة معناها إظهار خلاف ما في الباطن، بسبب قهر أو خوف يواجهه الإنسان؛
 أي: الإنسان يفعل التقيَّة احترازًا من الوقوع في مكروه، أو التعرض لضرر، وبالتالي التقيَّة من جنس (الإكراه) بالمصطلح الشرعي.

حكم التقيَّة وشروط العمل بها:
التقيَّة تجوز عند خوف الضرر؛ كالقتل أو القطع أو الإيذاء؛ أي: الترخص بالتقيَّة يكون في حال الإكراه؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]؛ قال ابن كثير - رحمه الله -: (وأما قوله: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106] فهو استثناء ممَّن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه مكرَهًا، لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله)[17].

وفي حُكم المكره من يكون بين قوم لا يَدينون بما يدين، وإذا لم يجارِهم في القول تعمدوا إضراره والإساءة إليه، فيماشيهم بقدر ما يصون به نفسه، ويدفع الأذى عنه؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28].

ومعنى الآية: لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم؛ فإنه من يفعل ذلك ﴿ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ [آل عمران: 28]، يعني بذلك: فقد بَرِئ من الله، وبَرِئ الله منه، بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [آل عمران: 28]، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتُظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مسلم بفعل[18].

وقوله: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [آل عمران: 28]؛
 أي: إلا مَن خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيَهم بظاهره، لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: "إنا لنكشِّر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم" [19].

والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي؛ فإن هذا نفاق، ولكن أفعل ما أقدر عليه؛ كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن رأى منكم منكَرًا، فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[20].

فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، ولكن إن أمكنه بلسانه، وإلا فبقلبه، مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يُظهر دينه، وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون - وامرأة فرعون - وهو لم يكن موافقًا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه.

وكتمان الدين شيء، وإظهار الدين الباطل شيء آخر، فهذا لم يُبِحْه الله قط إلا لمن أكره، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر، والله تعالى قد فرق بين المنافق والمُكرَه، والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين، لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإن هذا الإكراه لا يكون عامًّا من جمهور بني آدم، بل المسلم يكون أسيرًا أو منفردًا في بلاد الكفر، ولا أحد يكرهه على كلمة الكفر، ولا يقولها، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم، وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل يكتم ما في قلبه.

وفرق بين الكذب وبين الكتمان؛ فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن؛ حيث يَعذِره الله في الإظهار، كمؤمن آل فرعون، وأما الذي يتكلم بالكفر، فلا يَعذِره إلا إذا أكره، والمنافق الكذاب لا يُعذَر بحال، ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب، ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه، وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه؛ لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح، وإرادة الخير بهم، وإن لم يكن موافقًا لهم على دينهم، كما كان يوسفُ الصِّدِّيق يسير في أهل مصر، وكانوا كفارًا، وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، ومع هذا كان يعظم موسى ويقول: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28][21].

والأمور التي يُكرَه الإنسان على فعلها - لدفع الضرر عن نفسه أو عِرضه - هي في أصلها ممنوعة، ولكن الله أباحها للضرورة؛ إذ الضرورات تبيح المحظورات، ويجوز دفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما،وما يدل على ذلك قولُه تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173].

ودفع الإنسانِ الضررَ عن نفسه من باب المحافظة على النفس، ولا يجوز للإنسان أن يضر بنفسه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195].

والتقيَّة لا تجوز بما يرجع ضرره إلى الغير؛ كالقتل والزنا، وغصب الأموال، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين؛ إذ القاعدة: لا ضرر ولا ضرار، والضرر لا يزال بمثله، والضرر يزال بلا ضررٍ، ولا يجوز للإنسان أن يضر بنفسه ولا بغيره، وليس نفس الإنسان وعِرضُه وماله أَوْلى من نفس غيرِه وعِرضه وماله.

♥والتقيَّة رخصة، وليست بعزيمة[22].♥
والأصل في المسلم القيام بدينه، وإظهاره، وتطابق الظاهر مع الباطن، والأخذ بالعزيمة، والصبر على الأذى أو القتل أولى من الترخص وإجابة داعية الإكراه، ومن ترك الرخصة وصبر على إظهار الإسلام، وتحمَّل الأذى، فذلك أحظى له عند ربه إن صدق.

وقال ابن بطال - رحمه الله -: (أجمعوا على أن مَن أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة، وأما غير الكفر فإن أكره على أكل الخنزير وشُرب الخمر مثلاً، فالفعل أولى) [23].

♥الفرق بين التقيَّة الجائزة شرعًا والنفاق:
تختلف التقيَّة عن النفاق في التعريف والغاية؛ فالتقيَّة الجائزة شرعًا: كتمان الإيمان وإظهار خلافه باللسان، لضرورة قائمة واقعة؛ كدفع أذى محقق، أو تكون التقيَّة حيلة لجلب مصلحة للمسلمين في الحرب، أما النفاق فهو إظهار الإيمان والخير، وإبطان الكفر والشر، لمرض في القلب، وصاحبه يمارسه ليدخل بين المسلمين فيفسد عقائدهم، ويبث الشبهات بينهم؛ لتشكيكهم في دينهم، ويغرس البدع التي تُفسد عليهم دينهم.

وتختلف التقيَّة عن النفاق في وقت التحلي بها؛ فالتقيَّة الجائزة شرعًا حالة استثنائية مؤقتة، مخالفة لما يجب أن يتحلى به المؤمن، فلا تباح إلا لضرورة، والأصل في المسلم أن يتطابق ظاهره وباطنه؛ ولذلك كان التظاهر بالكفر من غير ضرورة معتبرة شرعًا نفاقًا وخداعًا، لا يصح بحال، وينتهي العمل بالتقيَّة بمجرد زوال الضرورة الداعية إليها،أما أهل النفاق فحالهم الدائم مخالفةُ الظاهر للباطن.

وتختلف التقيَّة عن النفاق في حال المتحلي بها؛ فالتقيَّة الجائزة شرعًا حالة يلجأ إليها المسلم عند الضرورة دون رضًا وحب، أما النفاق فيتحلى به صاحبه عن رضًا وحب.

وتختلف التقيَّة عن النفاق في الحكم؛ فالتقيَّة تجوز عند الضرورة، أما النفاق فلا يجوز مطلقًا.

والتقيَّة الجائزة شرعًا تكون مع الكفار أو الفسَّاق والظلمة،
أما النفاق فيكون مع المسلمين عندما يكون لهم الشوكة والظهور في الغالب.

إباحة الإسلام للتقية عند الضرورة من محاسن الشريعة:
إن إباحة الإسلام للتقية عند الضرورة تُعَد من محاسن الشريعة، ودليل على مرونتها وعدالتها، وموافقتها للعقل؛ حيث إن إباحة التقيَّة عند الاضطرار فيها مراعاة حال المكره المضطر، وتكليفه بما يستطيع ويقدر عليه، فلم تلزمه بوجوب تحمُّل الضرر والأذى، وأجازت له النطق بكلمة الكفر عند الإكراه؛ للنجاة من القتل والتعذيب، بشرط أن يكون القلب مطمئنًّا بالإيمان؛ فالكثير من الناس لا يتحمل التعذيب، وهذا دليل على عدالة الشريعة الإسلامية، فلم تلزم الإنسان بما لا يستطيع تحمله.

وفي إباحة التقيَّة عند الاضطرار موافقة لحكم العقل؛ فالعقل يقضي بدفع الضرر، والفرار منه، وجلب ما فيه السلامة والنجاة، ودفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما.

لا يُعَد منافقًا من تظاهر بشيء لينجو من بطش ظالم:
لا يُعَد منافقًا من تظاهر بشيء لينجو من بطش ظالم، فهذا التظاهر إنما هو حيلة ووسيلة للدفاع عن النفس، والحفاظ عليها، وهذا أمر جائز شرعًا وعقلاً وفطرة، ولا يذم من استعمل هذه الوسيلة للنجاة بنفسه من بطش ظالم، بل يمدح على ذكائه وحسن تصرفه، كما يمدح ضابط الشرطة عندما يتظاهر أمام اللصوص أو تجار المخدرات أنه منهم حتى يتمكن من القبض عليهم وتخليص المجتمع من شرهم، ويمدح الصحفي عندما يتظاهر بأنه رجل فقير يريد العمل عند رجل محتال ليكشف احتياله.

لا يَعجِزُ الله - سبحانه وتعالى - عن حماية أوليائه:
الله - سبحانه وتعالى - لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يَعجِز عن حماية أوليائه، وقادرٌ أن يهلك الظالم والكافر، وينجي المؤمن من الكافر في لمح البصر، لكنه - سبحانه وتعالى - أجرى بعض السنن في خَلقه، ومن هذه السنن: سنَّة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وسنة الإملاء والإمهال للكافرين؛ قال تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141].

وقال تعالى: ﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154]، وقال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2].

وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 179]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 4].

ومِن حِكم سنة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين وسنة الإملاء والإمهال للكافرين:
 أن يظهر الصالح من الطالح، والمحق من المبطل، والمؤمن من المنافق والكافر، ومريدو الآخرة من مريدي الدنيا، ويظهر من بعض العباد عبادة الصبر على البلاء، ومن آخرين عبادة الشكر على السلامة والأمن، ومن آخرين عبادة الشكر على النجاة من الظالمين، وتظهر عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتظهر عبادة الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك من الحِكَم.

وأنت أيها المخلوق الضعيف قد تتعمد في وضع ابنك في مشكلة تستطيع أن تحلها له، لكنك لا تفعل، وتتركه يحُلُّ هذه المشكلة بنفسه؛ كي يتعود على حل المشاكل، وتنمي فيه المقدرة على حل المشاكل، وقائد الجيش قد يتعمد وضع بعض الجنود في مأزق يستطيع أن يخلصهم منه، لكنه يتركهم يتخلصون من هذا المأزق بأنفسهم؛ تدريبًا لهم على التخلص من مثل هذه المآزق، وكي يرى من يستحق من الجنود القيادة، ومن عنده سرعة بديهة، ولله المثل الأعلى، الله قادر أن يهلك الظالم والكافر، وينجي المؤمن في لمح البصر، لكنه أمهَل الكافر وابتلى المؤمن لحِكَم عظيمة.

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

مراجع المقال:

• التعريفات للجرجاني.
• المبسوط للسرخسي.
• المخصص لابن سيده.
• المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية.
• المفيد في مهمات التوحيد للدكتور عبدالقادر صوفي.
• تفسير ابن كثير.
• تفسير الطبري.
• تهذيب اللغة لأبي منصور الهروي.
• جامع العلوم والحكم لابن رجب.
• زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي.
• شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم للحميري.
• عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها لصالح بن فوزان الفوزان.
• فتح الباري لابن حجر.
• مجمل اللغة لابن فارس.
• منهاج السنة النبوية لابن تيمية.

[1] المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية 2/ 942.
[2] مجمل اللغة لابن فارس 1/ 877.
[3] جامع العلوم والحكم لابن رجب 3/ 1250.
[4] التعريفات للجرجاني ص 245.
[5] عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها لصالح بن فوزان الفوزان ص 85.
[6] المفيد في مهمات التوحيد للدكتور عبدالقادر صوفي ص 191.
[7] منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/ 159.
[8] جامع العلوم والحكم لابن رجب 3/ 1250.
[9] جامع العلوم والحكم لابن رجب 3/ 1260.
[10] عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها لصالح بن فوزان الفوزان ص 88.
[11] المخصص لابن سيده 4/ 61.
[12] شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم للحميري 1/ 7275.
[13] تهذيب اللغة لأبي منصور الهروي 9/ 199.
[14] الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للكرماني 24/ 61.
[15] فتح الباري لابن حجر 12/ 314.
[16] المبسوط للسرخسي 24/ 45.
[17] تفسير ابن كثير 4/ 605.
[18] تفسير الطبري 6/ 313.
[19] تفسير ابن كثير 2/ 30.
[20] رواه مسلم في صحيحه رقم 49.
[21] منهاج السنة لابن تيمية 6/ 424 - 425.
[22] زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 1/ 272.
[23] فتح الباري لابن حجر 12/ 317.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق