الاثنين، 30 نوفمبر 2015

عقوبات الكافرين المعجلة والمؤجلة



عقوبات الكافرين المعجلة والمؤجلة
     للكافرين عقوبات ربانية يعاقبهم الله بها جزاء كفرهم ، قسم منها معجل يجري ضمن ظروف هذه الحياة الدنيا ، وضمن سننها ومقاديرها ، وقسم آخر مؤجل إلى مابعد ظروف هذه الحياة الدنيا .
( أ ) العقوبات المعجلة :
     أول ما يخسره الكافر بكفره معونة الله التي يمد بها أولياءه ، ثم يصيبه مقت من الله يضيق به صدره ، وتتكدر به نفسه ، فلا يكون في داخل نفسه منشرحاً ولا مسروراً ، لأنه يكون محروماً من الرضا بالمقادير ، وهذا يجعله فريسة للحزن والهم ، فهو دائماً حزين على ما فاته من خير ، مهموم لما يطمع بالحصول عليه ، وفي ذلك عذاب له يُقضُّ مضجعه وينغص عليه حياته ، ويحرِمه من التمتع الصحيح بما يصيب من لذَّات ، حتى إذا ضاقت به الحياة ، وقلت عليه نسمات آمالها ، وكثرت عليه خوانق أكدارها وآلامها ، وصار صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ، أو كأنما يهوي منها فيتمزق فتخطفه الطير من كل جانب ، عندئذٍ يحاول أن يفر من الحياة ، بالخمر والقمار ، أو بالمخدرات أو بالانتحار .
     يضاف إلى ذلك أنواع الخيبة التي تُمنى بها أعمالهم وتدبيراتهم التي يواجهون بها أولياء الله الصادقين العاملين بما أمرهم الله ، وصور الخذلان والهزيمة إذ ينصر الله المؤمنين الصادقين عليهم ، وأنواع العقوبات المادية والمهلكات الجسدية والنفسية التي ينزلها الله بهم ، ثم ما ينال بعضهم من تدمير شامل ،كما حصل لبعض الأمم التي كفرت برسل ربها وكتبه واليوم الآخر وأكثرت في الأرض الفساد .
     والنصوص القرآني التي بينت عقوباتهم المعجلة كثيرة . فمنها ما يبيِّن واقع حالهم النفسي القلق المضطرب المتمزق ، المشحون بالهموم والأكدار . ومنها ما يشتمل على وعيد الكافرين بأنواع العقوبات المعجلة ، وهذا الوعيد قد يكون وعيداً جازماً مقطوعاً به ، وقد يكون تهديداً صريحاً ، وقد يكون تلويحاً وتعريضاً بالتهديد ، وألوان التربية القرآنية في هذا كثيرة ومتنوعة . ومنها ما يشتمل على وعد المؤمنين الصادقين بالظفر والنصر والتأييد ضد أعدائهم ، وهذا يتضمن وعيداً للكافرين بأن الله سيخذلهم ويذلهم وينصر المؤمنين عليهم . ومنها ما يشتمل على بيان قصص ووقائع تاريخية أنزل الله فيها بالكافرين عقوباتهم المعجلة في الدنيا ، وفي عرض هذه القصص بيان لسنة الله في عباده حتى يعتبر بها الذين كفروا إن كانوا من الذين يعتبرون ويتعِّظون .
     والعنوان الشامل لعقوبات الكافرين معلن في قول الله تعالى : {فمن كفر فعليه كفره}، أي: فكفره يكون عليه ضرراً وأذى ، ولا يكون لمصلحته بحال من الأحوال ، لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة ، وحينما يتصور أن كفره سيجلب له فائدة أو مصلحة أو خيراً عاجلاً فإن كفره لا يزيده إلا خساراً ، كل هذا نجده موضحاً في قول الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول):
     {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً}
     والمقت الذي ينزل عليهم يملأ صدورهم ضيقاً وحرجاً ، وهماً وحزناً ، والخسارة يلاحقهم حيثما توجهوا ، كل ذلك بسبب كفرهم بما يجب أن يؤمنوا به مما أنزل الله على عباده.

     * العقوبة بالضيق والحرج في صدورهم:
     جاء في البيانات القرآنية أن الله يعاقب الكافرين ضمن سننه في الحياة الدنيا بضيق وحرج وصدورهم ، فقال تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):
     {فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}
     فالذين لا يؤمنون يعاقبهم الله بهذا الرجس النفسي ، وهو ضيق وحرج في صدورهم ، وهذه نتيجة طبيعة لكفرهم ، وهذه العقوبة تأتيهم ضمن سنن الله الكونية؟ فمن يرد الله أن يضله (أي: أن يحكم عليه بالضلال) بسبب كفره وعناده يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعَّد في السماء .

     وبمقدار ضعف التصورات الإيمانية لدى المؤمنين ضعفاء الإيمان يأتيهم نصيب من هذا الضيق والحرج في الصدور .
     * العقوبة بالتمزق النفسي والقلق :
     وجاء في البيانات القرآنية أن حالة من التمزق النفسي تصيب الكافرين بسبب كفرهم وإشراكهم بالله ما لم ينزِّل به سلطاناً . فقال الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول):
     { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
     فحالة التمزق والضياع والانهيار والقلق التي تصيب الإنسان في كيانه الداخلي هي من العقوبات النفسية التي يعاقب الله بها الكافرين ضمن سننه الكونية ، لأن الكفر بالله أو الإشراك به مما يسبب هذه النتائج في داخل النفس ضمن قوانين الأسباب والمسببات .
     * العقوبة بالخذلان والهزيمة أمام جند الله:
     ومن العقوبات المعجلة للكافرين خذلانهم وهزيمتهم أمام جند الله المؤمنين الصادقين القائمين بما أوجب الله عليهم ، ولو كانوا أقل منهم عدة وعدداً ، وإفساد تدبيراتهم ومخططاته ومكايدهم التي يدبرونها لمحاربة جند الله وإطفاء نور الله، وبذلك تتحقق حكمة الله ووعه في نصر أوليائه وخذل أعدائه .
     قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
     { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ }
     ففي هذا النص نلاحظ أن الغاية من خذلهم ونصر المؤمنين عليهم إضعاف قوتهم في الأرض بقطع طرف منهم ، أو كبتهم ، أي : إغاظتهم وإحزانهم ، ليكون ذلك برهاناً على أن الله ولي الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم . والعاقل متى أدرك دلالة هذا البرهان كان ذلك محرضاً له على الإيمان .

     ولذلك قال الله لرسوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
     {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ}
     ووسائل خذلهم ونصر المؤمنين الصادقين عليهم كثيرة مختلفة ، منها إلقاء الرعب في قلوبهم . ومنها توهين كيدهم ورد مكايدهم إليهم وجعلها في نحورهم . ومنها إمداد المؤمنين ضدهم بالقوة المعنوية العالية ، وبالملائكة وبالأحداث الطبيعية ، كالرياح والأمطار ومواقع الأرض وغير ذلك .

     أما إلقاء الرعب في قلوبهم فيدل عليه قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
     {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّالِمِينَ}

     فإلقاء الرعب في قلوبهم قد كان بسبب كفرهم وإشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً .

     وأما توهين كيدهم فيدل عليه قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):
     {ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ}

     وطبيعي أن يولي الكافرون الأدبار حينما يقذف الله في قلوبهم الرعب ويوهن كيدهم ، ولذلك خاطب الله الذين آمنوا بقوله في سورة (الفتح/48 مصحف/111 نزول):
     {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}
     وقد حذر الله الكافرين من عقوبة خذلهم ونصر المؤمنين عليهم ،بالتلويح مرة ، وبالتصريح أخرى ، وبالتطبيق العملي في معاركهم ضد المؤمنين الصادقين .
     فمن صور التلويح بالتهديد قول الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول):
     {لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ}

     فهم مهما بلغت قوتهم في الأرض لا يعجزن المؤمنين الصادقين القائمين بما أوجب عليهم ، لأن الله يمد أولياءه بمعونته ونصره ،ويخذل أعداءه وما النصر إلا من عند الله ، أما في الآخرة فمأوى الكافرين النارُ دار العذاب ، ولبئس هذا المصير مصيرهم .

     وقد جاءت هذه الآية طمأنةً للرسول والمؤمنين بوجهها الصريح ، واشتملت أيضاً على تلويح تهديدي للكافرين بموجب دلالتها المتعلقة بهم ، ولو لم يكن الخطاب فيها موجهاً بصراحة لهم ، لكن آية أخرى قد جاء فيها توجيه الخطاب للكافرين بأنهم غير معجزي الله ، فقال تعالى يخاطب المشركين في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):
     {وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ}
     وقال لهم أيضاً:
     {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
     وتحدث الله عن الكافرين عامة بمثل ذلك ، فقال تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):
     {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}
     أي: لا يظنوا أنفسهم قد سبقوا المؤمنين بعددهم وعدتهم ، فإنهم لا يعجزون المؤمنين الصادقين ، لأن الله مع المؤمنين بمعونته وتأييده ونصره ، ولكن على المؤمنين أن يقوموا بما أوجب الله عليهم ، وأن يحققوا في أنفسهم الشروط التي يستحقون بها تأييد الله لهم ،ونصرهم على عدوهم ، ومن ذلك أن يعدّوا لأعدائهم ما يستطيعون من قوة ، ومن أجل ذلك أتبع الله الآية السابقة بقوله :
     {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}
     ومهما تكن مكايد الكافرين كثيرة وخطيرة وذكية فإن الله قد ضمن للمؤمنين توهين هذه المكايد ، وردها عليهم ، متى صدق المؤمنون وأخلصوا لله في جهادهم ، وبذلوا ما في وسعهم في سبيل الله وهذا الضمان نلاحظه في قول الله الذي ذكرناه قريباً من سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):
     {ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ}
     وفي قول الله تعالى في سورة (الطور/52 مصحف/76 نزول):
     {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ}
     أي: فمكايدهم تعود عليهم ، ولا ينال المؤمنين الصادقين ضرها البالغ ، ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
     {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}

     فقد جاءت هذه الآية في معرض الحديث عن اليهود ، وهم أكثر الناس مكايد للمؤمنين ولسائر الناس .
     فما على المؤمنين الصادقين الملتزمين بأوامر الله إلا أن يواجهوا أعداء الله بثبات وصبر ، بعد أن يعدوا لهم ما يستطيعون من قوة ، وتكون نسبة عدوهم لا تزيد على ضعفهم .
     لقد كان التكليف أول الأمر يلزم المؤمنين بأن يقابلوا عشرة أضعافهم ، ثم خفف الله هذه النسبة إلى ضعف واحد ، نظراً إلى حالة الضعف النفسي الذي عليه الناس مهما بلغ إيمانهم ، إذ لا يرتقي شعورهم الجماعي العام إلى مستوى النسبة العظمى ، ولو بلغ شعورهم الجماعي إلى هذا المستوى لكتب الله لهم النصر على عدوهم ، وإن كانت قوته عشرة أضعاف قوتهم أو أكثر ، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):
     {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن منكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ منكُمْ مئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً منَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}

     أي: ليس لهم غاية يفقهونها فترفع قواهم المعنوية على القتال ، ولا أمل لهم فيما بعد الحياة الدنيا ، لذلك فهم شديدو الحرص على الحياة ، وهذا هو مولد الجبن في قلوبهم .

     وعقب ذلك جاء التخفيف في هذا المستوى من التكليف الإلزامي ، فقال تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):
     {ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ}
     ففي هذا وعد من الله بأن ينصر المؤمنين الصادقين الصابرين على عدوهم ، ولو كان عدده ضعف عددهم ، على أنهم لو وثقوا بالله حق الثقة ، وصبروا وصدقوا لنصرهم على عدوهم ولو كان عدده ضعف عددهم عشر مرات ، فالوعد الأول لم ينقطع ، ولكن التكليف بالمواجهة هو الذي جاء فيه التخفيف ، ولذلك جاءت الآية مصدرة بقول الله تعالى : {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً}.
     والوقائع والأحداث التاريخية قد أيدت هذه الحقيقة ، فالله قد نصر ر سله بالحق على الذين كفروا وظلموا من أقوامهم ، ونصر الذين آمنوا وصبروا وصدقوا واستقاموا في كل وقائعهم ضد الذين كفروا ، ولم تتحول رياح النصر عن المؤمنين إلا بذنوب قد ارتكبوها ،وقد حقق الله بنصره لرسله وللمؤمنين الصابرين الصادقين سننه التي وضعها ، وحقق وعده الذي وعد به أولياءه ، والذي أعلنه بقوله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول):
     {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ}
     وبنظرة تفصيلية نلاحظ أن الله تبارك وتعالى قد نصر نوحاً على قومه فأغرقهم وأنجاه والذين آمنوا معه ، ونصر هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً على أقوامهم ، ونصر موسى على فرعون وملئه وجنوده ، ونصر داود وسليمان ، ونصر عيسى فأنجاه من قومه ، ونصر محمداً صل الله علية وسلم والمؤمنين معه وتوج لهم جهادهم بالفتح المبين ، ونصر المجاهدين المسلمين من بعده ، ففتح لهم أبواب ممالك الأرض ، وما توقف عنهم النصر إلا حينما عصوا في الواجبات والشروط التي فرضها الله عليهم ، والتي كانوا يستحقون بها إمداد الله لهم بمعونته ونصره .

     ولنأخذ حياة الرسول محمد صل الله علية وسلم لنرى كيف نصره الله في كل مواقفه على أعدائه ، وكيف خذل الكافرين .
     لقد نصره الله يوم هاجر من مكة إلى المدينة ، بوسائل خفية غيبية ، وأخرى مشهودة ما كان الكافرون ليحسبوا حسابها ، وقد تحدث الله عن هذا النصر بقوله لأصحاب الرسول في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):
     {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

     وتحدث الله عن هذا النصر أيضاً بقوله لرسوله صل الله علية وسلم في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):
     {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ}
     ثم نصر الله الرسول والمؤمنين في غزوة بدر الكبرى على الكافرين أعدائهم وأعداء الله ، وسورة الأنفال تدور حول أحداث هذه الموقعة العظيمة وما أظهر الله فيها من آيات نصرة لرسوله والمؤمنين معه ، رغم أنهم كانوا أقلة أذلة ، وقد امتنَّ الله عليهم بهذا النصر ، فقال تبارك وتعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
     {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ}

     أي فبعزته ينصر ، وبحكمته يقضي بنصره للمؤمنين الصابرين الصادقين على الكافرين المصرين المعاندين الصادين عن سبيل الله .
     وفي غزوة أحد نصر الله المؤمنين في أوائل الأمر ، ثم حول الله عنهم رياح النصر بسبب معصيتهم أوامر الرسول صلوات الله عليه .
     وفي غزوة حنين حين تحولت أول الأمر رياح النصر عن المسلمين بسبب اغترارهم بكثرتهم واعتمادهم على أنفسهم ، ثم نصرهم الله وأيد رسوله والمؤمنين الصادقين ، وأنزل جنوداً من عنده ، وخذل الذين كفروا ، وبين الله هذا بقوله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):
     {لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ}
     فأصاب الله المؤمنين يوم حنين بما أصابهم به أولاً ليؤدبهم ويربيهم حتى لا يغتروا بأنفسهم ، وحتى لا ينقطعوا عن الاعتماد على الله والثقة به والتوكل عليه ، ثم تدارك القلة الباقية منهم بنصره المبين ، ليثبت للمؤمنين أن النصر من عنده سبحانه ، يرفعه متى شاء ، ويضعه حيث شاء .
     وفي غزوة الخندق كان نصر الله للمؤنين برد الكافرين عن حصار المدينة ، وهم يعانون آلام غيظهم ، إذ لم ينالوا خيراً من حملتهم الظالمة الآثمة ، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/99 نزول):
     {وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}
     وفي غزوة بني قريظة كان نصر الله للمؤمنين بقذف الرعب في قلوب اليهود وإنزالهم من حصونهم ، واستسلامهم للقتل والأسر ، وقد بين الله هذا النصر بقوله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول):
     {وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.
     وفي  غزوة بني النضير كان نصر الله للمؤمنين بأن قذف الرعب في قلوب بني النضير من اليهود ، وتم إجلاؤهم عن المدينة ، ونصر الله رسوله والمؤمنين معه ، ونزل في أحداث هذه الواقعة التي تمت بنصر المؤمنين وخذل الكافرين سورة (الحشر/59 مصحف/101 نزول)، وفي هذه السورة يقول الله تعالى:
     {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم منَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ * وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ}
     وهكذا وضح لنا بالشواهد الواقعية كيف يعاقب الله الكفارين بأنواع من العقاب المعجل في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أكبر وأشق ، وهذا العقاب المعجل للكافرين ليس عقاباً كاملاً ، وإنما هو عقاب جزئي للتذكير والتربية والاعتبار ، وهو أيضاً بشرى للمؤمنين ومثوبة لهم .
     * العقوبة بالقوارع الجزئية:
     ومن العقوبات المادية المعجلة التي ينزلها الله بالذين كفروا وأصروا على كفرهم وعنادهم أنواع القوارع والمصائب التي تحل بهم ، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول):
     {وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ}
     ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى في سورة (السجدة/32 مصحف/75 نزول):
     {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ منَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكرَ بِآيَاتِ رَبهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ }
     والعذاب الأدنى هو العذاب المعجل في الدنيا والغرض منه رجاء إصلاحهم أو الاتعاظ بهم ، وقد يدخل في العذاب الأدنى عذاب ما بين الموت والبعث .
     * العقوبة بالإهلاك العام والتدمير الشامل:
     ويأتي في قمة أنواع العذاب المعجل للكافرين عقابهم بالإهلاك العام والتدمير الشامل ، لقمع بؤرة الشر التي لم تُجدِ فيها كل وسائل الإصلاح ، وليكون هذا العقاب عبرة لغيرهم ، حتى يرتدعوا عن كفرهم وطغيانهم وتماديهم في الفساد ، ولينصر الله بذلك رسله والمؤمنين .
     لما اشتد استهزاء الكافرين برسول الله خاطبه الله مطمئناً ومسلياً له بقوله في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول):
     {وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}
     فكان عقاب الله لهم بالإهلاك العام ، والعذاب الشامل .
     وقص الله علينا في القرآن طائفة من قصص إهلاك الأولين ، ليكون ذلك عبرة لأولي الأبصار ، وأوضح لنا أن إهلاكهم كان جزاء لهم بسبب كفرهم وتماديهم في الغي والفساد ، وانتصاراً لرسله الذين كذبوهم وسخروا منهم وكادوهم كيداً كبيراً.

     فمن أمثلة ذلك إهلاك الله أهل سبأ ، لقد كان إهلاكهم جزاء لهم بسبب كفرهم وبغيهم ، قال الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):
     {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
     فهؤلاء السبئيون في القديم قد عاقبهم الله بالسيل العرم ، وجازاهم بسبب كفرهم العنيد الظالم ، بعد أن وسع عليهم في الرزق ، وعاملهم بعفوه وغفرانه (بلدة طيبة ورب غفور) لكنهم ما رعوا نعمة الله حق رعايتها ، فبدلهم الله بجنتيهم الطيبتين جنتين ذواتي أكل خمط ، ثم أهلكهم ومزقهم كل ممزق .

     وأوضح القرآن أن عقاب الكافرين يحمل غايتين :
     الغاية الأولى : الجزاء بالعقاب للكافرين .
     الغاية الثانية : الجزاء بالثواب للمؤمنين الصادقين .

     فمن ذلك ما قصه الله تعالى من قصة قوم نوح وإهلاكهم وإنقاذ نوح ومن آمن معه ، ليتعظ بها قوم محمد صل الله علية وسلم ، فقال تعالى في سورة (القمر/54 مصحف/37 نزول):
     {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ * فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
     فعقاب قوم نوح وإنقاذ نوح بالمعجزة الربانية كان ذلك جزاء لنوح الذي كُفِر – أي : كفر به قومه وكذبوه – وهذا جزاء بالثواب ، وكان أيضاً جزاء بالعقاب للكافرين المكذبين ، إذ كانوا هم الطرف المعاقب المهلَك .
     ومن الملاحظ بوضوح أن ما عرضه الله في كتابه من قصص الأولين ، قد كان الغرض منه إيقاظ مشاعر الاعتبار والاتعاظ ، ولم يكن الغرض منه مجرد عرض قصص من القصص التاريخية ، مهما كانت المواقف الفنية المثيرة ظاهرة فيها ، ولذلك تبرز في القصة القرآنية الأحداث المشتملة على مواطن العظة والاعتبار ، ويأتي فيها لفت النظر إلى الاتعاظ والاعتبار ، في آخر عرض القصة أو في أوله أو في أثنائه .
     ففي النص السابق نلاحظ في آخره قول الله تعالى :
{فهل من مدَّكر؟ فكيف كان عذابي ونذر؟}.

     ونلاحظ في القرآن تنبيهاً عاماً على الاعتبار بجميع ما أجراه الله في الأمم السابقة ، فمن ذلك قول الله تعالى يخاطب رسوله محمدا في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول):
     {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلزُّبُرِ وَبِٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }.
     ففي قوله تعالى : {فكيف كان نكير؟} توجيه ظاهر للاتعاظ والاعتبار بكل ما جرى للأمم السابقة من عقاب لهم على كفرهم وتكذيبهم .

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة (يوسف/12 مصحف/53 نزول):
     {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}

     ففي هذا النص تصريح بأن الغرض من عرض قصص الأولين أن تكون عبرة لأولي الألباب ، وهم أصحاب القلوب الواعية والأبصار المدركة .
     ومن هذا نلاحظ أن القرآن يعتمد – في ضمن ما يعتمد – على التربية بالقصة ، لما للقصة الواقعية من تأثير قوي في النفوس ، وتنبيه قوي على الاعتبار والادِّكار ، ومعلوم في الظواهر التاريخية أن تكرر النتائج للمقدمات دليل على ثبات السنةَّ الكونية ، فهي تدل عند ذوي العقول على أن للمستقبل حكم ما جرى في الماضي ، لذلك كان من الطبيعي الاستشهاد بأحداث الماضي دليلاً على ما يجري في المستقبل ، وباعتبار أن ذلك من سنن الله الثابتة .
     وذلك جعل الله أنبياء الأولين أدلة لأولي الألباب ، يحاسبون عليها ، ويلامون على الاستهانة بها ، وعدم الاعتبار والاتعاظ بما اشتملت عليه من مواطن عظة واعتبار ، وهذا ما نلاحظه في قول الله الموجه للذين كفروا بمحمد في سورة (التغابن/64 مصحف/108 نزول):
     {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَينَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }

     ففي هذا النص نلاحظ توجيه اللوم والتوبيخ لهم إذ لم يتعظوا ولم يعتبروا بأنباء الذين كفروا من قبل .
     وعلى هذا الأساس التوجيهي التربوي جاءت قصص القرآن .

(ب) العقوبات المؤجلة:
     الجزاء المؤجل إلى ما وراء ظروف هذه الحياة الدنيا هو الجزاء الأكبر ، وربما يدخر الله لبعض الناس كل جزائهم فينالون كل نصيبهم من هذا الجزاء الأكبر .
     ولما كان البحث عن واقع هذا الجزاء المؤجَل من أمور الغيب التي لا يستطيع العقل المجرد أن يتحكم في صورها وأشكالها أو يحكم على مراحلها ، لأن بينها وبين العقل حجاب الزمان والمكان ، كان المرجع فيها النصوص الدينية الصحيحة ومفاهيمها المقبولة .
     وقد دلت النصوص الدينية الصحيحة على أن أنواع العقاب المؤجل تبدأ منذ فترة الموت فما بعد الموت ، ثم يكون عقاب أشد في يوم الحساب ، وهي المدة التي تكون بعد البعث إلى الحياة الجسدية مرة أخرى ، وتستمر حتى إصدار الأحكام النهائية ،ثم يكون العقاب الأشد الأكبر في دار العذاب التي أعدها الله للمجرمين .
     فهي مراحل ثلاث:
     أولاها: مرحلة البرزخ ، وهي المدة الفاصلة بين الحياتين الماديتين .

     ثانيتها: مرحلة يوم الحساب ، وهي تكون بعد البعث وقبل دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
     ثالثها: مرحلة دار الجزاء الأكبر .
     وفي هذه المراحل الثلاث أيضاً يتلقى المؤمنون المتقون أنواعاً من ثوابهم ، وثوابهم الأكبر يكون في المرحلة الأخيرة ، إذ يدخلهم الله جنته .
     * عقاب الكافرين في المرحلة الأولى:
     لقد دلت النصوص الإسلامية دلالة صريحة على وجود عقاب للكافرين في المرحلة البرزخية التي تبدأ بالموت ، وتستمر حتى يبعثهم الله إلى الحياة الجسدية مرة أخرى .
     والموت إنما هو انفصال الروح عن الجسد ،ومفارقتها له ،كما يخلع لابس الثوب ثوبه .
     لقد قص الله علينا طرفاً من قصة موسى مع فرعون وآل فرون ومن آمن من آل فرعون ، ثم ختم ذلك بقوله في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول):
     {فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ * ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ }.

     الضمير في {فوقاه الله سيئات ما مكروا} يعود على الرجل الذي آمن من آل فرعون ، فوقى الله مؤمن آل فرعون سيئات ما مكر آل فرعون ، ونزل بفرعون وآله سوء العذاب من الله ، وجاء تفسير سوء العذاب هذا بيان عرضهم على النار غدواً وعشياً ، وهذا العرض على النار واضح أنه يكون في مدة البرزخ بين الموت والبعث بدليل قول الله تعالى عقب ذلك {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.
     فدل هذا على أن عرضهم على النار غدواً وعشياً يكون قبل قيام الساعة ، أي : قبل البعث . ثم بعد البعث يحاسبون ويقال لملائكة العذاب : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب .
     وفي أقوال الرسول صل الله علية وسلم نصوص كثيرة تثبت ما في هذه المرحلة من نعيم وعذاب .
     أما كون عذاب الروح أو نعيمها في هذه المدة ذا صلة بالأجساد الميتة أو البالية أو غير ذي صلة بها فلا شأن لنا به ،وقدرة الله لا يُعجزها شيء تتعلق به مشيئته سبحانه ، على أنه يكفي لتحقيق ما دلت عليه النصوص بالنسبة إلى هذه المرحلة أن يكون العذاب والنعيم للروح ولو لم يكن للروح أية صلة بأبدانها .
     * عقاب الكافرين في المرحلة الثانية:
     علمنا أن هذه المرحلة تبدأ بالبعث إلى الحياة بعد الموت للحساب والجزاء الأكبر .

     وقد دلت النصوص الإسلامية على أن هذه المرحلة تشتمل على عذاب الموقف الطويل ، في حر شمس دانية من رؤوس الخلائف ، ولا ينجو منه إلا المؤمنون الذين أكرمهم الله بأن يستظلوا في ظل عرش الرحمن يومئذٍ ، يوم لا ظل إلا ظله ، وتكون درجة عذاب هذا الموقف مناسبة لحال الواقف وكفره وكثرة معاصيه شدة وضعفاً ، ويستمر هذا الموقف زمناً يعلمه الله ، حتى يتمنى الكافرون أن يقضى عليه بعذاب جهمنم ، لينصرفوا إليها وينتهوا من موقف الحساب .
     وفي هذا الموقف أو في مرحلة من مراحله يعرض الذين كفروا على النار دار عذابهم ، ويقال لهم مع هذا العرض : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها؟! فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ، وفي بيان هذا يقول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول):
     {وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}
     ويقال لهم بعد عرضهم على النار : أليس هذا بالحق ؟ فيقولون: بلى وربنا . ولكن هذا الاعتراف يومئذٍ لا ينفعهم ، لأنهم يعترفون بما يشهدون ،وهم عليه معروضون وإليه واردون ، ولذلك يقال لهم : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول):
     {وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}
     وحين يرون العذاب قريباً منهم تكون حالتهم حالة من علم مصيره المحتوم ، فغلى فؤاده بالألم ، وظهرت المساءة على وجهه ، وفي بيان هذا يقول الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول):
     {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}
     أي: هذا الذي كنتم به تكذِّبون ، إذ كنتم بسببه أو في موضوعه تدعون الأباطيل والأكاذيب .
     وحين يعرضون على النار يساقون إليها زمراً بحسب أنواع كفرهم وظلمهم ، أو بحسب كتلهم وزمرهم في الدنيا ، وفي بيان هذا بقول الله تعالى في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول):
     {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ * قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ }.

     إنهم يؤمرون بالدخول ، وليس الدخول أمراً سهلاً ، فمن الطبيعي أن يحجموا ، لذلك فهم يدعون دعَّاً فيُدفعون بشدة ، مهانين مُذَلِّين ، قال الله تعالى في سورة (الطور/52 مصحف/76 نزول):
     {إِنَّ عَذَابَ رَبكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ للْمُكَذبِينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
     وهذا الدَّع إلى جهنم لا بد أن ينتهي إلى كبكتهم فيها على وجوههم كالركام الذي يقذف بعضه على بعض ، قال الله تعالى في سورة (النمل/27 مصحف/48 نزول):
     {وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
     وقال تعالى في سورة (الشعراء/26 مصحف/47 نزول):
     {وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ ٱللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}

     وبعد هذا الدعِّ وبعد الكبكبة في النار لا بد أن يباغتوا بمس النار فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ، قال الله تعالى في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول):
     {لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }

     فمسُّ النار يأتي مباغتاً ، والدفع يأتي بعد إحجام ، والأمر بالدخول يأتي قبل ذلك والله أعلم .
     * عقاب الكافرين في المرحلة الثالثة:
     وهي مرحلة دخولهم دار العذاب ، وقد جاء في نصوص القرآن لمحات تفصيلية لألوان العذاب في جهنم ، إلا أن معظم النصوص تحدثت عن عذاب جهنم وشدته وشدة إيلامه بشكل عام.
* وفيما يلي طائفة من النصوص التي تتحدث عن عذاب الكافرين في النار بشكل عام:
     1- فمنها قول الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول):
     {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
     فوصف العذاب هنا بأنه مهين ، أي فيه إهانة شديدة لهم وإذلال بالغ جزاء كبرهم واستعلائهم .

     2- ومنها قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
     {وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
     فهم أصحاب النار ، وهم خالدون فيها لا يخرجون منها .
     3- ومنها قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
     {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ}
     فجاء وصف العذاب هنا بأنه عذاب شديد .
     4- ومنها قول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):
     {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}
     ففي هذه الآية بيان أن جلود الكافرين المعذبين في نار جهنم كلما نضجت واحترقت وانقطع إحساسها خلق الله لهم جلوداً غيرها ، ليذوقوا العذاب المتجدد.
     5-ومنها قول الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول):
     {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ}
     فقد جاء وصف النار هنا بأنها جحيم ، أي مؤججة مضرمة شديدة الحرارة .
     6- ومنها قول الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول):
     {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
     فجاء وصف العذاب هنا بأنه عذاب أليم .
     7- ومنها قول الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول):
     {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ * إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ * وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ * فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ }
     وفي هذا النص وصف شهيق جهنم وفورانها من شدة حرها كأنها تتميز من الغيظ ، وفيه بيان أن أصحاب النار يلقَون فيها أفواجاً أفواجاً ، ولا يقذفون فيها دفعة واحدة ، وفيه بيان أن كل فوج يسأله خزنة جهنم من الملائكة فيقولون له : ألم يأتكم نذير؟ فيقولون: بلى ، ويعترفون بذنبهم ويتحسَّرون على أنفسهم . وهذا تطبيق ما جاء في قوله تعالى : {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} ، فما من فوج كافر يدخل النار إلا يُسأل هذا السؤال : ألم يأتكم نذير؟ فيقولون : بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا : ما أنزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير.
     * أما النصوص التي جاء فيها مزيد من تفصيل عقاب الكافرين في هذه المرحلة الثالثة الأخيرة فكثيرة ، ونستعرض فيما يلي طائفة منها مقتبسين ما فيها من تفصيلات:
     1- لقد جاء في القرآن بيان شراب الكافرين في جهنم فقال الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول):
     {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}
     فلهم شراب من حميم ، أي : شراب من ماء حار يغلي .
     2- وجاء في القرآن بيان طعامهم وشرابهم فيها ، فقال الله تعالى في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول):
     {إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلأَثِيمِ * كَٱلْمُهْلِ يَغْلِي فِي ٱلْبُطُونِ * كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ * إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }
     وقال تعالى في سورة (الواقعة/56 مصحف/46 نزول):
     {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضآلُّونَ ٱلْمُكَذبُونَ * لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ من زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ * هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدينِ }
     وقال تعالى في سورة (الصافات/37 مصحف/56 نزول):
     {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً للظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ٱلْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلينَ * فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ }
     فمن هذه النصوص يتبين لنا أن طعامهم في دار العذاب من شجر فيها من زقوم ، وأن شرابهم على هذا الطعام من الحميم .
     والزقوم شجر منتن الراحئة مرُّ الطعم كالمهل[1] ، ينبته الله في أصل الجحيم / وإذا أكله آكله غلى في بطنه كغلي الحميم ، وطَلع[2] هذا الشجر كأنه رؤوس الشياطين ، ولكن الكافرين يجدون أنفسهم في دار عذابهم مضطرين لأن يأكلوا من شجر الزقوم ، فيملؤوا بطونهم منه ، ثم بعد ذلك يسرعون فيشربون وهم ظامئون من الحميم ، لكن الحميم لا يطفئ شدة ظمئهم ، وما يغلي في بطونهم ، فيستزيدون ويستزيدون ويشربون شرب الهيم ، والهيم هي الإبل التي يصيبها د اء يقال له : داء الهُيَام ، فهي تشرب ولا تروى .

     ثم يُعتَل الكافر ويؤخذ إلى سواء الجحيم ، ثم يصب فوق رأسه من عذاب الحميم ، ويقال له على سبيل الإهانة والإذلال : ذق إنك أنت العزيز الكريم.
     ولهم أيضاً طعام آخر من غسلين ، وهو في كلام العرب ما يخرج من الأشياء المستقذرة كالجراحة ونحوها عند غسلها ، قال الله تعالى في سورة (الحاقة/69 مصحف/78 نزول):
     {فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ}
     3- وجاء في القرآن بيان لباسهم في دار عذابهم ، إن لهم ثياباً خاصة من نار ، تُقطَّع لهم على مقادير أجسادهم ، قال الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول):
     {هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}
     فللكافرين ثياب من نار مقطعة مفصلة على مقادير أجسامهم ، ويعذبون بسائل يغلي من شدة حرارته ، يصب من فوق رؤوسهم فيصهر به ما في بطونهم ، وتصهر به جلودهم ، ويحاولون الخروج من عذابهم وغمهم ، فتلاحقهم ملائكة العذاب بمقامع[3] من حديد ، فيضربونهم ، ويعيدونهم في العذاب ، ويقولون لهم : ذوقوا عذاب الحريق .
     4- وجاء في القرآن بيان ما يوضح في أعناق الكافرين من أغلال حامية يعذبون بها في دار عذابهم ، فقال الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):
     {...وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
     وقال تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول):
     { أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ}
     5- ويعذب الكافرون في النار بسلاسل محمية يسلكون فيها ، طول كل واحدة منها سبعون ذراعاً ، قال الله تعالى في سورة (الحاقة/69 مصحف/78 نزول):
     {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَىٰ عَني مَالِيَهْ * هَّلَكَ عَني سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ }
     6- وجاء في البيانات القرآنية أن عذاب الكافرين في نار جهنم عذاب دائم لا نهاية له ، وأنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ، بل حياتهم فيها مستمرة ، وعذابهم فيها لا ينقطع ، كما أنه لا يخفف عنهم من عذابها ، قال الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول):
     {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ * إِنَّ ٱللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ}
     فهم يدعون ربهم وهم في نار جهنم أن يعيدهم الله إلى دار الابتلاء ليؤمنوا ويعملوا صالحاً ، ولكن الله لا يستجيب إلى طلبهم هذا ، ويقول لهم : "أولَم نعمركم؟" أي: أولَم نجعل لكم في دار الابتلاء عمراً كافياً لاختباركم وامتحانكم ، فأصررتم على كفركم وعنادكم ، ويقول لهم أيضاً: "وجاءكم النذير" ، أي: وقد جاءكم رسول فأنذركم عاقبة كفركم فكذبتم وعصيتم .
     على أنهم لو ردوا إلى دار الابتلاء لعادوا لما نُهوا عنه ، ألمح إلى هذه الحقيقة قول الله تعالى في النص : {إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور}، فهو يعلم ما تنطوي عليه صدورهم من كبر وعناد ، فلو أعيدوا إلى دار الابتلاء لعادوا إلى اختيار الكفر على الإيمان ، لأن إعادتهم حينئذٍ سيرافقها محو ذكريات العذاب في نار جهنم ، فترجع إليهم حينئذٍ نفسيتهم الأولى المستكبرة المعاندة ، ويعودون سيرتهم الأولى ، وليست المقادير ألعوبة في أيدي المتشهِّين المتلاعبين ، وصرَّح بهذه الحقيقة أيضاً قول الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):
     {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذبَ بِآيَاتِ رَبنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
     ففي هذا النص تصريح بأنهم لو ردوا إلى دار الابتلاء لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب ، إلا أن تمنيهم العودة إلى دار الابتلاء هنا يكون حينما يوقفون على النار ، ويشاهدون دار عذابهم ، بينما نجد في النص السابق أن طلبهم العودة إلى دار الابتلاء يكون بعد دخولهم النار ، وتقلبهم في ألوان عذابها .
     ويطلب الكافر مثل هذا الطلب أيضاً إذا جاءه الموت وعلم منزله من العذاب ، عندئذٍ يسأل ربه أن يرجعه إلى الحياة ليؤمن ويعمل صالحاً ، ولكن طلبه يرفض لانتهاء زمن امتحانه ، وفي بيان ذلك يقول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول):
     {حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}
     ففي هذا النص بيان طلبهم الرجعة إلى الحياة الدنيا عند موتهم ، رجاء أن يعملوا صالحاً ، فيرفض طلبهم .
     وفيه أيضاً بيان أنهم يطلبون هذا الطلب حينما تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ، إذ يقولون : ربنا أخرجنا منها ، فإن عدنا إلى ما كنا عليه من الكفر والتكذيب فإنا ظالمون ، فيقول الله لهم : اخسؤوا فيها ولا تكلمون ، أي : ابتعدوا مطرودين مُذَلِّين مهانين .
     ويطلب الكافر مثل هذا الطلب أيضاً وهو في موقف الحساب ، وقد دلَّ على ذلك قول الله تعالى في سورة (السجدة/32 مصحف/75 نزول):
     {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِني لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

     ومن جملة هذه النصوص يتضح لنا أن الكافرين يطلبون الرجعة إلى دار الابتلاء أربع مرات .
الأولى : عند موتهم ومشاهدتهم منازلهم في دار العذاب .
الثانية : في موقف الحساب إذ يقفون عند ربهم ناكسي رؤوسهم
الثالثة : عندما يعرضون على النار بعد الحساب ، ويرون ما في النار من عذاب .
الرابعة : حينما يكونون في نار جهنم وهم يذوقون ألوان عذابها الأليم .
     وفي كل هذه المرات يُرفض طلبهم ، وترد عليهم تمنياتهم .
     7- وجاء في القرآن بيان أن الكافرين الذين ماتوا وهم كفار لا يغفر الله لهم ، ولا يقبل منهم فدية ، إنهم قد ختموا حياتهم في دار الابتلاء بالكفر والعناد وتحدي الحقيقة الإلهية الكبرى ، وقضي الأمر ، فلا رجعة ولا استئناف ولا غفران ولا فدية .
     إن عفو الله وغفرانه يوم القيامة من المنح التي يختص الله بها عصاة المؤمنين ، فلا يكون للكافرين منها نصيب .
     أما في الدنيا فباب العفو والغفران مفتوح لهم إن آمنوا ، فإذا ماتوا مصرين معاندين فقد قطعوا بأيديهم عن أنفسهم حبل الرجاء ، وقد أعلن الله لهم وهم في الحياة الدنيا أنه لن يغفر لهم إذا ماتوا وهم كفار ، ولن يقبل منهم أية فدية ، على أنهم يومئذٍ لا يملكون فدية يقدمونها .

     دلَّ على ذلك قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول):
     {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ}
     وقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):
     {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً}
     وقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):
     {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}
     فمن هذه النصوص القرآنية تتضح لنا القاعدة الإلهية العامة في الغفران ، وهي أن الله لا يغفر ذنب الكافر به أو الإشراك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فالأمر بالنسبة إلى الذنوب الواقعة في مجال احتمال الغفران منوط بمشيئة الله تبارك وتعالى .
     ولا طريق للكافرين والمشركين الذين ماتوا من قبل أن يتوبوا إلا طريق جهنم خالدين فيها ، قال الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):
     {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً}
     أما عدم قبول الفدية منهم فقد دل عليه قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
     {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ}
     وقول الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول):
     {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}

     ويظل الكبر ملازماً لهم حتى رؤية العذاب ،لذلك فهم يخفون ندامتهم .
     وقول الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول):
     {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }
     وهكذا تؤكد النصوص أن الكافرين في الآخرة محرومون من فضل المغفرة بسبب كفرهم ، وأنهم لا سبيل إليهم إلى فداء يفتدون به ، وأنهم لا نصير لهم ، وأنهم لا مخرج لهم من العذاب .
*     *     *

     ألا فليعلم الذين اختاروا لأنفسهم سبيل الكفر بالله عن طريق الشرك به ، أو عن طريق الجحود والإلحاد هذه الحقائق ، فهي نُذُر لهم ، ولا يلوموا بعد ذلك إلا أنفسهم .
     ما على الرسول إلا البلاغ .
     وما على مبلِّغ رسالة الرسول إلا البلاغ .
     فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .
     إن الله بصير بالعباد ، يقيم فيهم عدله ، ويمنح محسنيهم فضله .
     ولا يظلم ربك أحداً ...
*     *     *



[1] المهل : المعدن المذاب ، أو دردري الزيت ، أو القيح والصديد .
[2] الطلع: : نور النخلة ، وهو أول ما يطلع من ثمرها .
[3] المقامع : قضبان يضرب بها للقمع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق