الاثنين، 30 نوفمبر 2015

زعم اليهود بقتل المسيح وصلبه (1)

زعم اليهود بقتل المسيح وصلبه (1)


وتبعهم النصارى في هذا الزعم الفاسد، وحوَّلوه إلى عقيدة من معتقداتهم الزائفة، مع أن الحق الذي لا يقبل الشك هو ما قاله الله - تعالى‏ -: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158].

ونُجمِل القول في هذا الزعم وما سبقه من خطوات، فنقول‏: لقد تآمر اليهود للتخلُّص من عيسى، والقضاء على دعوته، بعد أن ذاع صيتُه، واشتهرت دعوتُه؛ حيث قاومه اليهود بأساليب شتى من اتهامه، والسخرية منه، ومجادلته، وإنكار معجزاته، وغير ذلك، لكنهم رأوا أن كل هذه السبل التي سلكوها لم تُوقِف مدَّ هذه الدعوة، فتآمروا على نهاية المسيح كعادتهم مع مَن قتلوا من الأنبياء من قبل‏،‏ واستخدموا في هذه المؤامرة تلك الخطوات التي سبق الحديث عنها من التآمر السري عليه؛ حيث اجتمع ‏"‏السنهدرين‏"‏‏؛ [‏السنهدرين‏: هيئة رسمية تتكون من واحد وسبعين عضوًا، يرأسها رئيس الكهنة، وتمثل السلطة الشرعية في إسرائيل]‏.‏

و"السنهدرين‏"‏ أول شكل تنظيمي من أشكال التنظيم العنصري السري ‏"القوة الخفية‏"‏، وهو المجلس الأعلى الذي يحكم الطائفة، ويملك وحدَه حق الحل والعقد في شؤونها‏.‏

والسنهدرين كلمة دخيلة على اللغة العبرية بعد عصر الكتاب المقدَّس بأجيال، وأصلها يوناني ‏"سوندريون‏"‏ بمعنى المجلس، أو الجمعية، أو الهيئة الاستشارية، مِن فعلٍ في اللغة اليونانية هو ‏"سوندرهو‏"؛‏ معناه‏: اجتمع، واستعمل اليونان لفظة ‏"سوندريون‏"‏ في لغتهم في المؤتمر السياسي الذي ينعقد على أثر الحروب، ولهيئة أركان الحرب، كما عبروا بها عن المحكمة العليا، وكذلك: ‏مجلس الشيوخ‏، واستعملها المؤرخ اليهودي ‏"‏يوسيفوس‏"‏ في القرن الأول الميلادي، في حديثه عن التنظيمات الجديدة التي أدخلها ‏"‏جوبيونوس‏"‏ الحاكم الروماني على الشام سنة 57 ق‏.‏م‏.‏ وعندما قسم فلسطين إلى خمس محافظات، وجعل لكل منها هيئة حاكمة تسمى‏ "‏السنهدرين‏"،‏ وكانت ‏"‏أورشليم‏"‏ إحدى هذه المحافظات الخمس.

وأوضح كثير من محققي التاريخ اليهودي أن استعمال هذه الكلمة اليونانية بين اليهود أقدم من ذلك؛ حيث يرجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد ترجموا بها اللفظة العبرية الفصحى ‏"‏زقينيم‏"؛‏ أي: شيوخ الجماعة، اقتداءً بموسى الذي اختار من قومه سبعين رجلاً، هم أعضاء المجلس الذي يحكم بني إسرائيل، ولا ندري كيف كانوا يحكمون على أيام موسى، ولكننا نعلم أنهم في عصور ما بعد السبي البابلي كانوا يقومون بالمشورة، والإفتاء، وتنظيم الهيكل، والقضاء بين الناس، كما كانوا هم الذين يُصدِرون أحكام الإعدام، وكانت هذه المهمة الأخيرة دقيقة جدًّا بالنسبة لهم، فكانوا يُعْنَون بالبحث عن الشبهات والظروف المخفِّفة؛ حتى لا تكثر أحكام القتل، احترازًا من قول التلمود‏: ‏‏"‏إن السنهدرين الذي يقتل واحدًا كل أسبوع لجديرٌ بأن يسمَّى مخرِّبًا‏"، ‏وقد نظم أحبار التلمود ‏"‏السنهدرين‏"،‏ فجعلوه على درجتين‏:
السنهدرين الأعظم؛ وهو المجلس الأعلى المركزي لجميع اليهود، ويتألف من سبعين رجلاً، على رأسهم واحد ينوب عن موسى، هو الملك إن وجد، أو الحاخام الأكبر، وكانوا إذا اجتمعوا جلسوا في نصف دائرة‏.‏

السنهدرين الأصغر‏: وهو مجلس محلي لكل تجمُّع يهودي، يتألف من ثلاثة وعشرين عضوًا، وقد ورد في التلمود أن مدينة "أورشليم" كانت تمتاز بمجلسين من السنهدرين الأصغر، ينعقد كل منهما عند باب من أبوابها، إلى جانب السنهدرين الأعظم الموجود بها أيضًا،‏ وكان السنهدرين الأصغر محكمة تقف في القضاء عند درجة معينة لا تتعدَّاها؛ إذ تذهب القضايا الكبرى إلى السنهدرين الأعظم‏،‏ ورئيس السنهدرين الأعظم كان يحمل لقب ‏(‏أمير‏)‏ بالعبرية ‏(‏ناس‏)‏، ويتخذ مكانه في وسط الأعضاء، بصفة خليفة موسى، وكان اختياره يتم بالانتخاب بين الأعضاء، ولم يكن يشترط فيه أن يكون أكبرهم سنًّا، ويُكتفى بأن يكون أوسعهم علمًا وأشدهم غيرة على الدين، وأعمقهم وعيًا بمصالح اليهود‏.‏

هذا، وجلسات السنهدرين الرسمية لم تكن تعقدُ عادةً في بيت رئيس الكهنة؛ ولذلك حين اجتمع السنهدرين في كامل هيئته، فإن من المعتقد ألاَّ تعتبر هذه ‏"‏محكمة‏"‏ حقيقية، بل اجتماع عُقِد لهدفٍ واحد، هو تمكين السلطات اليهودية من أن توافق أولاً على‏ ضرورة إصدار حكم الموت على يسوع، ‏(‏وهذا أمر يخضع للقوانين اليهودية‏)‏، وثانيًا الاتفاق على خطَّة مناسبة لإغراء الوالي الروماني على إصدار حكم الإعدام، ‏(‏وهذا يتطلب بالطبع تهمة يكون للقضاء الروماني حق الولاية وصلاحية النظر فيها)؛ [راجع في هذا‏: الشخصية الإسرائيلية، د/ حسن ظاظا، ص 51 - 54، المسيح في مصادر العقائد المسيحية، م/ أحمد عبدالوهاب، ص 150، ط/ مكتبة وهبة، الأولى، سنة 1978م، 1398هـ، جذور الفكر اليهودي، ص 90، التفسير الحديث للكتاب المقدس، ص 420، ط/ دار الثقافة]، ليفكر كيف يكون التخلص من المسيح؛ حيث قرَّروا ضرورة التخلص منه، ثم أصدروا في هذا الاجتماع أمرًا بأن كل مَن يجد المسيح أن يبلِّغ عنه، ليلقوا القبض عليه، وأخذوا في التجسس كخطوة تنفيذية لما تم إصداره من ضرورة القبض على المسيح، وقد استعمل اليهود في هذه الخطوة الإغراء بالمال، وهو إحدى الوسائل الهامة لديهم لتحقيق أهدافهم، فتسلَّلوا وسط أتباعه وأصحابه، وارتبطوا بواحد من الذين يلازمون المسيح ليعرفوا أخباره منه، وحوَّلوه مِن تابع مؤمن إلى ساعٍ لتنفيذ مؤامرة ضد معلمه وسيده‏‏!‏

ويبدو أن تعاليم سيده لم تصلْ إلى قلبه فلم يصمدْ إيمانه أمام ضغط المادة وقوة الإغراء، إلى أن تم القبض على السيد المسيح - كما تقول الروايات - بأسلوب عنيف قاسٍ، كأن المسيح مخرِّب أو مسيء، أو مجرم قاتل!

وبعد القبض عليه قدِّم للمحاكمة أمام المجلس اليهودي، وعندئذٍ اجتمع الكتبة والشيوخ، وتقدَّم شهود زور كثيرون ليفتروا على المسيح فرية تكون مبررًا لقتله‏.‏

كما نفث أولاد الأفاعي سمَّ مؤامرتهم؛ حيث وشوا بالمسيح عند الحكومة الرومانية، مُدَّعين أن دعوة المسيح لن تُبقِي الشعبَ على ولائه للحكم والسيادة الرومانية، فإن الشعب لو سمع دعوته فإنه سيعمل على التحرر النفسي، والتخلص من الأسر الاجتماعي والسياسي، بأداة الدعوة الجديدة،‏ وشوا بهذا وغيره، رغم أن المسيح لم يتعرَّض لسياسة الدولة بنقدٍ أو تجريحٍ‏، وبهذه الوشاية دخلتِ الدولة معركتَها مع عيسى، وهكذا تآمر اليهود لارتكاب هذه الخطيئة والاشتراك في هذه الجريمة التي اشترك فيها الجميع ورَضِيَها، ولم تتمَّ إلا بعد اجتماع ومشاورة وإقرار، حتى اشترك فيها الشعب اليهودي أيضًا، ذلك الذي ضلل تمامًا، وأصبح أداة عمياء تبغي ما يريد القوم الذين استشعروا خطر دعوة السيد المسيح.‏

إجماع يهودي على خطيئة قتل المسيح‏:
خطيئة القتل الكبرى التي أرادها اليهود، أو قام بها اليهود - على حدِّ رواية الأناجيل - عند مطاردتِهم للسيد المسيح وقتله، لم تكن عمليةً استأثرت بها طائفة من اليهود دون باقي الطوائف اليهودية، ولا إثمًا وقع فيه بعضهم باندفاعه، أو علاقة خاصة يمكن أن يتبرأ منها الآخرون‏.

وهنا ينبغي أن نسجِّل - للأمانة العلمية رأيًا آخر - يؤكِّد أن ‏"‏الفريسيين‏"‏ من اليهود كانوا وراء هذه المؤامرة؛ فقد ذكر الدكتور كامل سعفان أن مِن أهم معتقداتهم الإيمانَ بمجيء ‏"‏المسيح المنتظر‏"‏ ليُعِيد‏ "‏ملكوت الله‏"‏، ومع ذلك كانوا - بسبب تعصبهم - الطائفة التي وقفت في وجه السيد المسيح، وكانت على رأس المُؤتَمِرين به، ولم ينفكوا يدبِّرون له الكيد، حتى حكم بصلبه؛ ‏[اليهود تاريخ وعقيدة ص 205 بتصرف‏]‏.

وقال الدكتور أحمد شلبي‏:
"ويرى بعض الباحثين أن (الفريسيين) لا يكوِّنون فرقة دينية، وإنما يمكن أن نطلق عليهم حزبًا سياسيًّا له اتجاهاته الدينية، وهم يعتقدون أن دولة اليهود لا بدَّ أن تستعيد مكانتها؛ ولذلك كانوا يؤمنون بالمسيح الذي يجيء ليُعِيد ‏"‏ملكوت الله‏"،‏ وكان (الفريسيون) يريدون من بني إسرائيل أن يتمسَّكوا بالعقيدة القديمة‏.‏‏.‏‏. ‏وكانوا يعارضون الأنبياء، وكان لهم نشاط واسع في المجتمع اليهودي، ووضعوا أنفسهم موضع المعارضة، وصوَّرهم كاتبو الأناجيل في صورة معارضة للمسيح عيسى - عليه السلام - ووضعوهم في موضع معارض له"؛ [انظر: اليهودية ص 227، 228، بتصرف، وكذا قاموس الكتاب المقدس، ص 675‏].‏

وإنما الخطيئة التي تقصُّها آيات الأناجيل - وخاصة فيما ورد في ‏"‏متى‏" ‏من الإصحاح السابع والعشرين - أن الشعب اليهودي ممثلاً في سادته وشيوخه وكهَّانه، استجاب لموجة من التضليل رهيبة ومخيفة، أعمت الشعب جميعَه عن الحقيقة التي أرادوا قتلها والتخلص منها؛ ليَعُودوا مرة ثانية بعد التخلص من خطر الدعوة الجديدة إلى مراحل القهر والزيف، والرياء والنفاق، التي طالما تَمَّ فيها استغلال عَرَق المكافحين، حتى ضاعت بينهم وفيهم قِيَمُ العدل والإخاء‏.‏

يقول ‏"‏متى‏"‏‏: "‏‏.‏‏. ‏ولَمَّا كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي‏".‏

وهنا فقط، إذا كان لنا أن نقف عند آيات الأناجيل والمعتقدات التي وردت بها، فنقول على ضوئها‏:
"إن عملية القتل التي قام بها اليهود ضد السيد المسيح، لم تتم إلا بعد اجتماع ومشاورة وإقرار، لو لم يكن الشعب اليهودي جميعه قد غُلِب على أمره، وضُلِّل تمامًا، وأصبح أداة عمياء، تبغي ما يريد القوم الذين استشعروا خطر دعوة السيد المسيح، لَمَا تيسَّر للمجتمعين أن يحققوا ما ابتغوا، ولقامت في وجهِهم طوائف الجموع الفقيرة والمتملمة من طول آلام السُّخْرة والسيطرة اليهودية في ظل قسوة الطبقات اليهودية المستغلة"‏.‏

أقول‏:
لولا أن الجماعات الفقيرة والمريضة - التي كانت ترى أن السيد المسيح أداة لها ومخرجًا من محنة الآلام، وشدائد البلاء - قد غلبت على أمرها، ووصلت بها موجة التضليل إلى الحد الذي أصبحت فيه هذه الجماهير بمختلف طوائفها أداة عمياء - لَمَا تيسَّر للمجتمعين والمتآمِرِين أن يحققوا مبتغاهم ضد السيد المسيح‏.‏

وهذا التقرير - على حد ما تصوره الأناجيل للمؤمنين بها - يتضح تمامًا، ويتقرر مما يصوره ‏"‏متى‏"‏ في الإصحاح السابع والعشرين، وهو يرسم الجو العام لحال الشعب اليهودي حين إقرار الخطيئة قبل تنفيذها، فيقول‏: ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرَّضوا الجموع على أن يطلبوا ‏"‏باراباس‏"،‏ ويهلكوا ‏"‏يسوع‏"‏، فأجاب الوالي، وقال لهم‏: مَن مِن الاثنين تريدون أن أطلق لكم‏؟‏ فقالوا‏: ‏‏"‏بارباس‏"‏، فقال لهم ‏"‏بيلاطس‏"‏: فماذا أفعل بيسوع الذي يدعي أنه المسيح‏؟‏ قال له الجميع‏: ليصلب، فقال الوالي‏: وأي شرٍّ عمل‏؟‏ فكانوا يزدادون صراخًا قائلين‏: ‏ليُصلَبْ، فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيء، قال‏: إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم، فأجاب جميع الشعب، وقالوا: دمُه علينا وعلى أولادنا، حينئذٍ أطلق لهم "باراباس"، وأما يسوع، فجلده وأسلمه ليصلب‏".‏

وأمام هذا النص الإنجيلي الذي ورد عند ‏"‏متى‏"‏، فإن الثورة الإنجيلية - والتي يؤمن بها كل أصحاب المعتقد الديني في الأناجيل - تصوِّر الشعب اليهودي جميعًا بأنه قد استجاب لثورة كهَّانه وشيوخه، وأصبح معهم تحت توجيهِ القادة في رفضٍ كامل لكلِّ ما يتعلَّق أو يتصل بالسيد المسيح، بل ويصوِّر رغبة الوالي في أن يعفوَ عن المُذنِب الذي أخَّر العفو عنه كما كان يتبع تقليديًّا، فقد كان الوالي يريد أن يقدِّم للجماعات اليهودية في عيدهم مذنبًا عندهم هو السيد المسيح، ويطلق لهم سراحه، ولقد كان يوجد وقت القبض على السيد المسيح ومطاردته عند القوم جميعًا مذنب كبير ومخطئ آثم يعرفونه، ويتأكدون من عِظم ذنبه،‏ وفداحة ما اقترف، ولكنهم أصروا على التخلص من السيد المسيح، ومع اختلاف طبيعة كل من المتَّهمَينِ ‏"‏السيد المسيح، والمذنب الآثم‏"‏، إلا أن القوم جميعهم في الثورة العمياء والاندفاعة الحمقاء التي قَتلت فيهم جميعًا المعانيَ الإنسانية التي كان من الممكن أن تربطهم بقِيَم أو عقيدة، وجعلتهم يأبون أن يطلقوا سراح المعلِّم والداعية، بعد أن عميت قلوبهم وبصائرهم، وأصبحوا يمثلون موقفًا غوغائيًّا أحمق، ومن عجب أن آيات الإنجيل لم تخلُ عند هذا المعتقد بالذات في روايتها له من الإسهاب والتفاصيل لكل ما يتعلق بالظروف العامة، وبالدقائق التي كانت - من وجهة نظر الرواة الإنجيليين - تُحِيط بالنهاية التي فرضها اليهود على السيد المسيح - سلام الله عليه‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق