ابن تيمية
يبطل استدلال النصارى على عقيدة التثليث بالعقل
ينقل شيخ
الإسلام عن النصارى ما يبررون به الثالوث تبريرا عقليا ثم يبطله .
وفي ذلك
يقول :
إن قولهم
" أب وابن وروح قدس " وأنها ثلاثة أقانيم ، إنما يعنون به : أن الله شئ
حي ناطق . وذلك لأنهم لما رأوا حدوث الأشياء ، علموا أن شيئا غيرها أحدثها ، إذ لا
يمكن حدوثها من ذواتها ، لما فيه التضاد والتقلب فقالوا : إنه شئ لا كالأشياء
المخلوقة ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وذلك لينفوا عنه العدم كما يزعمون .
ورأوا أن
الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين : شئ حي وشئ غير حي ، فوصفوه بأجلهما ، وقالوا : هو
شئ حي ، لينفوا عنه الموت .
ثم رأوا أن
الحي ينقسم إلى قسمين ، حي ناطق وحي غير ناطق ، فوصفوه بأفضل القسمين ، وقالوا :
هو شئ حي ناطق : لينفوا عنه الجهل .
ثم يقولون
: والثلاثة أسماء هي إله واحد ، مسمى واحد ، ورب واحد ، وخالق واحد ، شئ حي ناطق ،
أي الذات والنطق والحياة ...
والواقع أن
هذا التعليل لعقيدة التثليث تعليل باطل – كما يقول ابن تيمية – فليس الأمر كما
ادعيتموه أيها النصارى ، فإنكم تقولون : إن هذا القول : " أب وابن وروح قدس
" ، فكان أصل قولكم هو ما تذكرونه من أنه تلقى من الشرع المنزل ، لا أنكم
أثبتم الحياة والنطق بمعقولكم ، ثم عبرتم عنها بهذه العبارات ..
ومعلوم أن
الحياة والنطق لا تعقل إلا صفة قائمة بموصوف ، ولا يعلم موصوف بالحياة والنطق إلا
وهو مشار إليه ، بل ما هو جسم كالإنسان .
ولو كان
الأمر كذلك ( أي إثبات وجود الله وحياته ونطقه ) لما احتجتم إلى هذه العبارة
" أب وابن وروح قدس " ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة ، بل معلوم عندكم وعند
سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم قدير متكلم ، لا تختص صفاته بثلاثة ، ولا
يعبرون عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك ، وهو لفظ الأب والابن وروح القدس ،
فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسرتموها به في لغة أحد من الأمم ، ولا يوجد في
كلام أحد من الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكرتموه من المعاني ، بل إثبات ما
ادعيتموه من التثليث ومن التعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعتموه ، لم يدل عليه
شرع ولا عقل .
ووصفهم
الأقانيم الثلاثة بأنها جوهر واحد ، إنما ينبئ أنها جملة ، وليس هذا مما يذهبون
إليه ، ولا يعتقدونه ، ولا يجعلون له معنى ، لأنهم لا يعطون حقيقة التثليث ،
فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة ، ولا حقيقة التوحيد ، فيثبتون القديم واحد ليس
باثنين ولا أكثر من ذلك . وإذا كان ذلك كذلك ، فما قالوه هو شئ لا يعقل ، ولا يصح
اعتقاده ، ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال .
وإذا جاز
عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحد ، فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا
واحدا ، وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا ، وثلاثة أغيار جوهرا واحدا ، وثلاثة أشياء
جوهرا واحدا ، وثلاثة قادرين جوهرا واحدا ، وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا ؟
وكل ما
يجري هذا المجرى من المعارضة فلا يجدون فصلا .
أي هذا
الكلام لازم لهم لا ينفصلون عنه .
ويقول
النصارى : كل من اعتقد أن الثلاثة أقانيم ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة ، أو ثلاثة
أشخاص مركبة ، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير ، والتبعيض ، والتشبيه فنحن
نلعنه ونكفره .
فيرد عليهم
ابن تيمية مبينا تناقضهم في ذلك ، فيقول لهم :
"
وأنتم أيضا تلعنون من قال : إن المسيح ليس هو إله حق من إله حق ، ولا هو مساو الأب
في الجوهر ، ومن قال : إنه ليس بخالق ، ومن قال " إنه ليس بجالس عن يمين أبيه
، ومن قال أيضا : إن روح القدس ليس برب حق محيي ومن قال " إنه ليس ثلاثة
أقانيم .
وتلعنون
أيضا مع قولكم : إنه الخالق ، من قال : إنه الأب ، والأب هو الخالق ، فتلعنون من
قال : هو الأب الخالق ، ومن قال : ليس هو الخالق ، فتجمعون بين النقيضين "
فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث ، ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد
عن الآخر ، وتجمعون بذلك بين قولين متناقضين : أحدهما حق ، والآخر باطل .
وكل قول
يتضمن جمع النقيضين ( إثبات الشيء ونفيه ) ، أو رفع النقيضين ( الإثبات والنفي )
فهو باطل .
ومن مظاهر
تناقضهم أيضا : زعمهم أن كلمة ( ابن الله ) التي يفسرونها بعلمه أو حكمته ، وروح
القدس التي يفسرونها بحياته وقدرته ، وأنها صفة له قديمة أزلية ، لم يزل ولا يزال
موصوفا بها . ويقولون – مع ذلك – أن الكلمة مولودة منه ، فيجعلون علمه القديم
الأزلي متولدا عنه ، ولا يجعلون حياته القديمة الأزلية متولدة عنه ، وقد أصابوا في
أنهم لم يجعلوا حياته متولدة عنه ، لكن ظهر بذلك بعض متناقضاتهم وضلالهم ، فإنه إن
كانت صفة الموصوف القديمة اللازمة لذاته ، يقال : إنها ابنه وولده ومتولد عنه ،
ونحو ذلك . فتكون حياته أيضا ابنه وولده ومتولدا عنه ، وإن لم يكن كذلك ، فلا يكون
علمه ابنه ، ولا ولده ، ولا متولدا عنه .. فعلم أن القوم في غاية التناقض في
المعاني والألفاظ ، وأنهم مخالفون للكتب الإلهية كلها ، ولما فطر الله عليه عباده
من المعقولات ، ومخالفون لجميع لغات الآدميين ، وهذا مما يظهر به فساد تمثيلهم ...
ويقول
النصارى : الموجود إما جوهر ، وإما عرض ، فالقائم بذاته هو الجوهر ، والقائم بغيره
هو العرض .
ثم يقولون
: إنه مولود حي ناطق ، له حياة ونطق .
ويرد عليهم
ابن تيمية يقوله :
"
حياته ونطقه " إما جوهر وإما عرض . وليس جوهراً ، لأن الجوهر ما قام بنفسه .
والحياة والنطق لا يقومان بأنفسهما ، بل بغيرهما ، فهما من الأعراض ، فتعين أنه
عندهم جوهر تقوم به الأعراض ، مع قولهم : إنه جوهر لا يقبل عرضا .
وإن قيل
أرادوا بقولهم : " لا يقبل عرضا " ما كان حادثا . قيل : فهذا ينقض
تقسيمهم الموجود إلى جوهر وعرض ، فإن المعنى القديم يقوم به ليس جوهرا ،وليس حادثا
، فإن كان عرضا فقد قام به العرض وقبله ، وإن لم يكن عرضا ، بطل التقسيم .
فتبين من
هذا أنهم يقال لهم : أنتم قلتم " إنه شئ حي ناطق ، وقلتم : هو ثلاثة أقانيم ،
وقلتم : المتحد بالمسيح أقنوم الكلمة ، وقلتم في الأمانـة .
"
نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد الولود من
الأب قبل كل الدهور ، إله حق من إله حق من جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق ، مساو
للأب في الجوهر .
ثم قلتم :
أن الرب جوهر لا يقبل عرضا . وقلتم : إن الذي يشغل حيزا أو يقبل عرضا هو الجوهر
الكثيف . وأما الجوهر اللطيف فلا يقبل عرضا ولا يشغل حيزا ، مثل : جوهر النفس
وجوهر العقل ، وما يجري في هذا المجرى من الجواهر اللطيفة ، وبعد أن صرحتم بأن
الرب جوهر لا يقبل عرضا . قلتم " ليس في الوجود شئ إلا وهو إما جوهر ، وإما
عرض ، فإن كان قائما بنفسه غير محتاج في وجوده إلى غيره فهو الجوهر ، وإن كان
مفتقرا في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه فهو العرض .
فيقال لكم
" الابن القديم الأزلي الموجود من جوهر أبيه ، الذي هو مولود غير مخلوق ،
الذي تجسد ونزل هل هو جوهر قائم بنفسه أم هو عرض قائم بغيره ؟
فإن قلتم :
هو جوهر ، فقد صرحتم بإثبات جوهرين ، الأب جوهر والابن جوهر ، ويكون حينئذ أقنوم
الحياة جوهراً ثالثاً ، فهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر قائمة بأنفسهما . وحينئذ
يبطل قولهم : إنه إله واحد ، وإنه إحدى الذات ، ثلاثي الصفات . وإنه واحد بالجوهر
، ثلاثة بالأقنوام ، إذ كنتم قد صرحتم – على هذا التقدير – بإثبات ثلاثة جواهر .
وإن قلتم :
بل الابن القديم الأزلي ، الذي هو الكلمة التي هي العلم والحكمة ، عرض قائم بجوهر
الأب ، ليس جوهرا ثانيا . فقد صرحتم بأن الرب جوهر تقوم به الأعراض ، وقد أنكرتم
هذا في كلامكم . قلتم : هو جوهر لا تقوم به الأعراض ، وقلتم : إن من المخلوقات
جواهر لا تقوم بها الأعراض ، فالخالق أولى . وهذا تناقض بين ...
ويقول ابن
تيمية – بيانا لسبب هذا التناقض – : إنهم يلفقون عقيدتهم من مصادر متعددة ، بحيث
يبدوا فيها وضوح التضارب والتناقض بين أجزائها فيقول :
وسبب ذلك :
أنهم ركبوا لهم اعتقاداً ، بعضه من نصوص الأنبياء المحكمة كقولهم : الإله الواحد ،
وبعضه من متشابه كلامهم ، كلفظ الابن وروح القدس ، وبعضه من كلام الفلاسفة
المشركين المعطلين كقولهم : جوهر لا تقوم به الصفات . فجاءت عقيدتهم ملفقة
وإذا قال
النصارى : إنه إحدى الذات ثلاثي الصفات قيل : لو اقتصرتم على قولكم : إنه واحد وله
صفات متعددة لم ينكر ذلك عليكم جمهور المسلمين ، بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق