الاثنين، 7 ديسمبر 2015

الشبهة الأولى( إطلاق عبارة "ابن الله ")




الشبهة الأولى( إطلاق عبارة "ابن الله ")
إطلاق عبارة "ابن الله " على المسيح عليه السلام في الإنجيل.


بسط هذه الشبهة:

لقد تكرر وصف المسيح بابن الله في الإنجيل كثيرا و جاء ذلك على أنحاء متعددة :

(1) منها إطلاق عيسى نفسه على نفسه لقب " ابن الله "، و هذا أكثر ما جاء في إنجيل يوحنا، كما في آخر قصة الأعمى من الولادة الذي شفاه المسيح عليه السلام في إنجيل يوحنا: 9/ 35 ـ 37 و 5/ 19 ـ 26 و 10/ 36 و 17/ 1.

(2) و منها قول الحواريين لعيسى عليه السلام:" إنك حقا ابن الله " أو قولهم: " أنت هو المسيح ابن الله الحي"، كما في إنجيل متى: 14 / 33، و 16 / 16.

(3) و منها مناداة الله تعالى في السماء: " هذا ابني الحبيب الذي عنه رضيت " كما في إنجيل متى: 3 / 17 و 17 / 5.

(4) و منها إطلاق جبريل لقب " ابن العلي "و " ابن الله " على المسيح، كما في إنجيل لوقا: 1 / 32 و 35.

قالوا: فإذا ثبت أن المسيح هو ابن الله، ثبتت إلـهيته، لأن الابن لا يكون إلا من نفس جوهر أبيه الذي ولد منه!.



الإجابة عن هذه الشبهة :

رغم أن هذه الشبهة، قد تبدو، بالنسبة للذين ليس لهم اطلاع على الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد، لأول وهلة شبهة قوية، لكن بمجرد مطالعة الأناجيل و الملاحظة المقارنة لموارد استعمال عبارة " ابن الله " فيها، بل في الكتاب المقدس بشكل عام، سواء منه العهد الجديد أو العهد القديم، يتبين أنها شبهة ضعيفة جدا، و أن مراد الكتاب المقدس من هذه العبارة معنىً مجازيٌّ تماما هو: الصالح البار المقرب من الله و المحبوب من الله، أو رسول الله ومختاره المجتبى. و فيما يلي توضيح ذلك من عدة وجوه :

الوجه الأول: مبدئيا نقول أنه لا يمكن أن يكون المقصود من عبارة " ابن الله " المستخدمة بحق عيسى بن مريم عليه السلام معنى حقيقيا، لأن ذلك سيتعارض مع إطلاق عبـارة " ابن الإنسان " و عبارة " ابن داود " كثيرا على المسيح أيضا، كما مر معنا في القسم الحادي عشر من الفصل الماضي، إذ من البديهي أنه لا يمكن للشخص الواحد نفسه أن يكون ابنا لأبوين بالمعنى الحقيقي!! و لا عبرة لقولهم أنه ابن الإنسان من ناحية ناسوته و ابن الله من ناحية لاهوته، لأنه سبق و بينا استحالة أن يكون شخص واحد بعينه و بذاته: بشراً و إلهاً بنفس الوقت!. فلا بد أن تكون البنوَّة في إحدى التعبيرين مرادة حقيقة أي هي بنوة التولُّد، و في الآخر مرادة مجازا عن معنى معنوي آخر. فنقول أن الأدلة البينة التي فصلناها في الفصل الماضي و ما سيأتي في هذا الفصل كافية لبيان أن بنوته للإنسان هي البنوّة المرادة بمعناها الحقيقي أما بنوته لله فذات معنى مجازي سيأتي توضيحه.

الوجه الثاني: لدى تتبعنا لاستخدام عبارة " ابن الله " في الأناجيل نرى أن هذا التعبير يقصد به معنى الصالح البار الوثيق الصلة بالله و المتخلِّق بأخلاق الله. فقد جاء في إنجيل مرقس (15/ 39): "و لما رأى قائد المائة، الواقف مقابله، أنه صرخ هكذا، و أسلم الروح، قال: حقا كان هذا الإنسان ابن الله". نفس هذا الموقف أورده لوقا في إنجيله فنقل عن قائد المائة أنه قال عن المسيح: "بالحقيقة كان هذا الإنسان با رَّ اً "، فما عبر عنه مرقس في إنجيله بعبارة " ابن الله " عبر عنه لوقا بعبارة "بارّاً "، مما يبين أن المراد من عبارة ابن الله ليس إلا كونه بارا صالحا.

و بهذا المعنى كان يستخدم اليهود ـ مخاطَبي المسيح ـ لفظة " ابن الله "، التي لم تكن غريبة عليهم، بل شائعة و مستخدمة لديهم بالمعـنـى الذي ذكرناه، و لذلك نجد مثلا، أن أحد علماء اليهود و اسمه " نتنائيل"، لما سمع من صديقه فيليبس، عن نبيٍّ خرج من مدينة الناصرة، استنكر ذلك في البداية، لكنه لما ذهب ليرى عيسى بنفسه، عرفه عيسى {.. و قال فيه: " هو ذا اسرائيلي خالص لا غش فيه "، فقال له نتنائيل: " من أين تعرفني؟ "، أجابه يسوع: " قبل أن يدعوك فيليبس و أنت تحت التينة، رأيتك! " فأجابه نتنائيل: " رابِّي! أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل "} (يوحنا 1/ 45 ـ 49)، و مما لا شك فيه، أن مقصود نتنائيل، كإسرائيلي يهودي موحد، عالم بالكتاب المقدس، من عبارة ابن الله هذه، لم يكن: أنت ابن الله المولود منه و المتجسد! و لا مقصوده: أنت أقنوم الابن المتجسد من الذات الإلهية!! لأن هذه الأفكار كلها لم تكن معروفة في ذلك الوقت، و لا تحدث المسيح نفسه عنها، لأن هذه الحادثة حدثت في اليوم الثاني لبعثة المسيح فقط، بل من الواضح المقطوع به أن مقصود نتنائيل من عبارته أنت ابن الله: أنت مختار الله و مجتباه، أو أنت حبيب الله أو من عند الله، أو أنت النبي الصالح البار المقدس، و نحو ذلك. هذا و مما يؤكد ذلك، أن لقب " ابن الله " جاء بعينه، في الإنجيل، في حق كل بارٍّ صالح غير عيسى عليه السلام، كما استعمل " ابن إبليس" في حق الإنسان الفاسد الطالح [1].
ففي إنجيل متى (5/ 9): " طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناءُ الله يُدْعَوْنَ "، و فيه أيضا: " و أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، و صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، و يطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات " متى (5 / 44 ـ 45).

و في إنجيل لوقا (6 / 35): "بل أحبوا أعداءكم و أحسنوا و أقرضوا و أنتم لا ترجون شيئا فيكون أجركم عظيما و تكونوا بني العـَلِيِّ فإنه منعم على غير الشاكرين و الأشرار ".

فسمَّى الأبرار المحسنين بلا مقابل المتخلِّقين بـخُلُقِ الله بـِ " أبناء العلي " و " أبناء أبيهم الذي في السموات ".

و في إنجيل لوقا أيضا يطلِق المسيح عليه السلام على أهل الجنة عبارة " أبناء الله" فيقول: " و لكن الذين حُسِبوا أهلا للحصول على ذلك الدهر و
القيامة من الأموات لا يُـزوِّجون و لا يُـزَوَّجون. إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة و هم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة "لوقا:20 / 35ـ 36

و في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا يقول: " و أما الذين قبلوه (أي قبلوا السيد المسيح)، و هم الذين يؤمنون باسمه، فقد مكَّنهم أن يصيروا أبناء الله " 1 / 12.

كل هذا مما يوضح أنه في لغة مؤلفي الأناجيل و اللغة التي كان يتكلمها السيد المسيح عليه السلام، يُعَبَّرُ بـِ: " ابـن الله " عن كل: امرء بار صالح وثيق الصلة بالله مقرب منه تعالى يحبه الله تعالى و يتولاه و يجعله من خاصته و أحبابه، و وجه هذه الاستعارة واضح، و هو أن الأب جُـبِلَ على أن يكون شديد الحنان و الرأفة و المحبة و الشفقة لولده، حريصا على يجلب له جميع الخيرات و يدفع عنه جميع الشرور، فإذا أراد الله تعالى أن يبين هذه المحبة الشديدة و الرحمة الفائقة و العناية الخاصة منه لعبده فليس أفضل من استعارة تعبير كونه أبا لهذا العبد و كون هذا العبد كابن لـه.

و من هذا القبيل ـ في تراثنا الإسلامي ـ مثلا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أهل القرآن أهل الله و خاصته " [2] فليس المراد بعبارة " أهل الله " معناها الحقيقي لأن أهل الشخص: هم عشيرته و ذوو قرباه و الله تعالى يتنزه عن العشيرة و ذوي القربى و الصاحبة و الولد، بل هذه استعارة تشبيهية المراد منها أن أهل القرآن هم أحباب الله و أولياؤه و مقربوه، الذين لهم من الله عناية خاصة و محبة وثيقة كالتي تكون بين المرء و أهله و ذوي قرباه.

و قد جاء في بعض رسائل العهد الجديد ما يوضح هذا المجاز أشد الإيضاح و لا يترك فيه أي مجال للشك أو الإبهام. فقد جاء في رسالة يوحنا الأولى (5/1ـ2) قوله: “ كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله. و كل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضا. بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله و حفظنا وصاياه ". و في آخر نفس هذه الرسالة: " نعلم أن كل من ولد من الله لايخطئ بل المولود من الله يحفظ نفسه و الشرير لا يمسه " 5/18. و أيضا في الإصحاح الثالث من نفس تلك الرسالة، يقول يوحنا: "كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيَّة لأن زرعه يثبت فيه و لا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله، بهذا أولاد الله ظاهرون و أولاد إبليس... الخ " رسالة يوحنا الأولى: 3/ 9ـ10.

و في الإصحاح الرابع من تلك الرسالة أيضا: " أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضا لأن المحبة هي من الله و كل من يحب فقد ولد من الله و يعرف الله " رسالة يوحنا الأولى: 4/7.

و في رسالة بولس إلى أهل رومية (8 / 14 ـ 16): "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولـئك هم أبناء الله. إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله".

و في رسالة بولس إلى أهل فيليبس (2 / 14 ـ 15): "افعلوا كل شيء بلا دمدمة و لا مجادلة. لكي تكونوا بلا لوم و بسطاء أولاد الله بلا عيب في وسط جيل معوج و ملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم".

ففي كل هذه النصوص استعملت عبارات: ابن الله، أبناء الله، أولاد الله، و الولادة من الله، بذلك المعنى المجازي الذي ذكرناه.


الوجه الثالث : لقد جاء أيضا في العهد الجديد و القديم، إطلاق عبارة " ابن الله " و أحيانا " بكر الله " أي ابنه البكر، على بعض أنبياء بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم و فضَّلهم ـ في ذلك الوقت ـ على العالمين، و فيما يلي ذكر الشواهد على ذلك:

(1) في الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا، في بيان نسب المسيح عليه السلام، جاء أنه: " و هو ـ على ما كان يُـظَنُّ ـ ابن يوسف ابن هالي ابن...........(و ساق النسب كله إلى أن وصل لقوله) ابن آدم ابن الله! " لوقا: 3/23 و 38. فاعتبر آدم ابن الله، و واضح أنه ليس مقصوده البنوَّة الحقيقية، و لا أحد من المسيحيين يعتقد بإلـهية آدم و لله الحمد!، بل إنه لما كان آدم بغير أبوين و كان وثيق الصلة بالله تعالى نسبه إلى الله و أطلق عليه هذا اللفظ مجازا.

(2) و في سفر الخروج من التوراة (4/ 22 ـ 23) يقول الله تعالى لموسى عليه السلام: " فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابـنـي البـكـر، فقلت لك أطلق ابـنـي ليعبدني فأبيت أن تطلقه. ها أنذا أقـتل ابنك البكر"

(3) و في سفر صموئيل الثاني، يقول الرب لعبده داوود: "متى كملت أيامك و اضطجعت مع آبائك أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبت مملكته. هو يبني بيتا لاسمي و أنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبا و هو يكون لي ابنا " صموئيل الثاني: 7/12ـ14.

(4) و في سفر إرميا، يقول الله تعالى: " لأني صرت لإسرائيل أبا، و أفرايم هو بكري " إرميا: 31/9.

(5) و جاء في سفر مزامير داود عليه السلام، قول الله تعالى لعبده داود: " و أَجعلُ على البحر يده و الأنهار يمينه. و هو يدعوني أبي أنت. إلـهي و صخرة خلاصي. و أنا أيضا أجعله بكراً على من ملوك الأرض " المزامير: 89/ 25ـ 27.


قلت: ففي الشاهدين الأخيرين أطلق الله تعالى على أفرايم و داود عليهما السلام لفظ "بِكري "، و في الشاهد رقم 2 أطلق على إسرائيل ( أي يعقوب عليه السلام ) لقب " ابني البكر "و في الشاهد رقم 3 اعتبر سليمان أو المسيح عليهما السلام (حسب تفسير البشارة) ابناً له كذلك. فلو كان إطلاق مثل هذه العبارة، أعني عبارة البنوة لله، على نبي عظيم، يفيد إلـهيته لكان كل من اسرائيل و داود وأفرايم و سليمان عليهم السلام آلهة!! بل أحق بالألوهية من عيسى عليه السلام، لإن الابن البكر أقرب للأب من غيره و أحق بالإكرام بحسب الشرائع السابقة و بحسب العرف الرائج بين الناس في احترام الابن البكر!.

و أما إطلاق عبارة " أبناء الله و بناته " أو " أولاد الله " أو " ابني البكر" على جميع بني إسرائيل فقد تكرر مرات عديدة في كتاب " العهد القديم " و فيما يلي بعض النماذج على ذلك:

(1) في سفر التثنية من التوراة خطاباً لبني إسرائيل: " أنتم أولاد للرب إلـهكم " تثنية: 14/1.

(2) و في نفس السفر: " فرأى الرب و رذل من الغيظ بنيه و بناته" تثنية: 32/19

(3) و في سفر المزامير (الزبور) لداود عليه السلام: " أنا قلت إنكم آلهة، و بني العلـيِّ كلكم. لكن مثل الناس تموتون و كأحد الناس تسقطون " المزامير 82 / 6 ـ7.

(4) و في سفر إشعيا يقول الرب عن بني إسرائيل: " ربيت بنين و نشَّأْتهم. أما هم فعصوا علي " إشعيا: 1/2.

(5) و فيه أيضا: "و قد قال حقا إنهم شعبي، بـنـون لا يخونون " إشعيا: 63/8.

(6) و في سفر هوشع: " لكن يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال و لا يعد و يكون عوضا عن أن يقال لهم لستم شعبي يقال لهم أبناء الله الحي" هوشع: 1/ 10.

(7) و في نفس السفر أيضا: " لما كان إسرائيل غلاما أحببته و من مصر دعوت ابني" هوشع: 11 / 1.

أعتقد أن كل هذه الشواهد تكفي للاقتناع بأن لفظ " ابن الله الحي " أو " ابني " أو " أولاد الله " لا يراد منها ـ في لغة الكتاب المقدس ـ البنوة الحقيقية و الولادة الواقعية بالمعنى الحرفي للكلمة، و إلا لكان جميع بني إسرائيل آلهة! و إنما المراد بها نوع من العلاقة المعنوية الوثيقة التي تدل على اعتناء و اختصاص و عطف من الله بمن أُطْلِقَ عليهم أبناؤه أو أولاده، فهي في غاية الأمر بنوَّة معنوية فحسب [3] .

و لذلك ورد، في العهد القديم، إطلاق لفظ: " أبناء الله " على الملائكة أيضا، كما جاء في سفر النبي أيوب عليه السلام مثلا: " و اتفق يوما أن دخل بنو الله ليمثلوا أمام الرب و دخل الشيطان أيضا بينهم " أيوب:1/6، و مثله في: 2/1. و طبعا لا أحد من النصارى و لا اليهود يعتقد ببنوة الملائكة الحقيقية لله عز و جل و لا ببنوة أي من الأنبياء لله عز و جل بالمعنى الحقيقي، بل يأخذون هذه البنوة على معنى مجازي محض. و كان ينبغي لهم أن يفهموا تعبير ابن الله الذي أطلق على المسيح بمقتضى نفس هذه اللغة، لغة الكتاب المقدس، التي نشأ عليها المسيح نفسه و كان يخاطب اليهود الذين تشبعوا بها لأنها لغة كتابهم المقدس (العهد القديم) الذي يقرؤنه على الدوام و يدرسونه، على نفس ذلك المعنى المجازي، أي بأنها بنوة اختصاص و محبة و ولاية و نحو ذلك، لكن للأسف قبلوا بهذا المعنى المجازي في كل مكان إلا هنا، أضلهم الشيطان، فأخذوه على معنى حرفي و نسبوا لله تعالى الولادة الحقيقية جاعلين المسيح ابنه الذي خرج منه حقيقة!! تعالى الله عن التولد و الولادة و أن يكون له ولد أو نظير أو معين أو شريك.

و الحقيقة أن استخدام تعبير الابن و الولد بالمعنى المجازي هو من الاستخدامات الشائعة في كل لغة، فمثلا في لغتنا العربية العامية كثيرا ما نقول هذا ابن حلال أو ذاك ابن حرام، أو نقول هذا ابن مصلحة، أو نقول يا أبناء مدينة كذا... الخ و بديهي أنه لا شيء من الحلال أو الحرام و المصلحة أو المدينة يلد بالمعنى الحقيقي! و إنما المقصود نوع من الصلة بين ما سُمِّيَ ابناً و ما جُعِلَ أباً له، وكذلك كان في اللغة القديمة، لذلك نجد في العهد الجديد هذا التوسع في الاستخدام المجازي للفظ " الابن " واضحا، ففي إنجيل متى مثلا (23/15) يطلق المسيح عليه السلام على المستحق لدخول النار عبارة: " ابن جهنم"، و على أهالي أورشليم عبارة " أولاد أورشليم "(متى:23/37)، و على أهل هذه الدنيا عبارة "أبناء الدهر" (لوقا: 20/34)، و على المستحقين لعالم القيامة و الحياة الأبدية الجديدة عبارة:" أبناء القيامة " (لوقا: 20/36)، كما أن بولس يخاطب في رسالته إلى أهل تسالونيكي (5/5) أهالي تلك المدينة فيقول: "جميعكم أبناء نور و أبناء نهار ".

فهل يجوز، بعد كل ذلك، الإصرار على تفسير عبارة: " ابن الله" المطلقة على المسيح، تفسيرا حرفيا رغم كل هذه الشواهد اللغوية و الأدلة العقلية و النقلية على الاستخدام المجازي لهذه اللفظة في لغة الكتاب المقدس التي مرَّت؟

فإن قيل: إنما سمى الإنجيل عيسى عليه السلام بـ "الابن الوحيد " [4] لله مما يفيد أن بنوَّته لله بنوَّة فريدة متميزة لا يشاركه فيها أحد فهي غير بنوَّة أنبياء بني إسرائيل، لِـلَّه، وغير بنوَّة المؤمنين الأبرار الصالحين عموما أو بنوَّة شعب بني إسرائيل أو الملائكة، لله.. الخ، فلا يبقى إلا أنها كذلك لأنها بنوَّة حقيقية جوهرية.

فجوابه: إن عبارة "الابن الوحيد " في الكتاب المقدس لا تعني بالضرورة الانفراد و الوحدانية الحقيقية بل قد يقصد بها الحظوة الخاصة و المنزلة الرفيعة، يدل على ذلك أن سفر التكوين من التوراة يحكي أن الله تعالى امتحن إبراهيم عليه السلام فقال له: "يا إبراهيم! فقال: هأنذا. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه، اسـحق، و اذهب إلى أرض المـريا... " تكوين: 22/1ـ2.

فأطلق الكتاب المقدس على اسحق لقب الابن الوحيد لإبراهيم، هذا مع أنه، طبقا لنص التوراة نفسها، كان اسماعيل قد وُلِد لإبراهيم، قبل إسحق، كما جاء في سفر التكوين: " فولدت هاجر لأبرام ابنا و دعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر: اسماعيل. كان أبرام ابن ست و ثمانين لما ولدت هاجر اسماعيل لأبرام " تكوين: 16 / 15 ـ 16، ثم تذكر التوراة أنه لما بلغ إبراهيم مائة سنة بشر بولادة إسحـق (سفر التكوين: 17 / 15 إلى 20)، و بناء عليه لم يكن اسحق ابناً وحيداً لإبراهيم بالمعنى الحقيقي للكلمة، مما يؤكد أن تعبير " الابن الوحيد " لا يعني بالضرورة ـ في لغة الكتاب المقدس ـ معنى الانفراد حقيقة، بل هو تعبير مجازي يفيد أهمية هذا الابن و أنه يحظى بعطف خاص و محبة فائقة و عناية متميزة من أبيه، بخلاف سائر الأبناء، و لا شك أن محبة لله تعالى للمسيح و عنايته به أرفع و أعلى و أعظم من عنايته بجميع الملائكة و جميع من سبقه من الأنبياء لذا صح إطلاق تعبير: " ابني الوحيد" عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق