الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

9-الإنسان بين التخيير والتسيير:



                                      9-الإنسان بين التخيير والتسيير:
الشبهة:
ادعى نصراني أن الإنسان في الاسلام مسير تسيير كامل كالروبوت واستدل  بذلك على  بعض  الآيات  وسوف  أسرد  الشبهات التي  أثارها  وأرد عليها  ثم أسرد رأي الإسلام بذلك  ثم  أعرج  قليلا على  رأي المسيحية  في  ذلك.
حيث  قال:
* الإنسان فى القرآن مسيراً وليس مخيراً (القدر فى الإسلام) فحدد القرآن إن الإيمان بالإسلام ليس فيه اختيار والأمر الأكثر صعوبة للفهم هو أن الإنسان مجبرا إما أن يكون عاصياً خاطياً أو تقياً مؤمناً فهى أمور مقدرة منذ الأزل، فالإنسان بلا إرادة مسلوب الفكر والحرية والرغبة فى التغيير إلى الأفضل فهو لا يستطيع أن يختار شيئا لا يريده الله، "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفتح من ذكاها وقد خاب من دساها " (سورة الشمس / 7-10).
من النص السابق (فألهمها فجورها وتقواها) نجد أن الله هو السبب فى فجور الناس لأنه يغريهم ويلهمهم بالشر ! وحاشا لله أن يفعل ذلك، ونجد أيضا أن الإنسان لا حول له ولا قوة فى ما يواجهه من اتباعه للشر فهل سيواجه المسلم مقدرات الله واللوح المحفوظ المكتوب فيه أنه سيكون فاجرا أو تقيا قبل أن يولد.

الرد على الشبهة:
يقول  النصراني:
 أن الإنسان مجبرا إما أن يكون عاصياً خاطياً أو تقياً مؤمناً فهى أمور مقدرة منذ الأزل فالإنسان بلا إرادة مسلوب الفكر والحريه والرغبه فى التغيير إلى الأفضل فهو لا يستطيع أن يختار شيئا لا يريده الله  " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفتح من ذكاها وقد خاب من دساها " ( سورة الشمس / 7-10)
للأسف هذه نتائج التفسير بالهوى بل التفسير الانتقادي بلا أي علم، فالنصراني  فهم أن  الآية  تبين أن الإنسان ملهم للفجور منذ خُلق وملهم للتقوى كذلك منذ خُلق.
بينما  أجمع المفسرون في  تفسير هذه  الآية أن الله أرشد النفس إلى طريق الفجور والتقوى. قال ابن عباس (فألهمها فجورها وتقواها) بين لها الخير والشر وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك والثوري وقال سعيد بن جبير ألهمها الخير والشر.
فكلمة ألهم معناها بيّن وضّح أرشد ...إلخ، فلو كان القصد تعمد لقال ونفس وما سواها أجبرها على فجورها وتقواها ... إلخ.
ثم يقول النصراني ويسرد:
ونص آخر يقول " وقيضنا لهم قرناء فزينوا ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول فى أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين " ( سورة فصلت / 25) وحدد القرآن مبدأ أساسيا وهو أن هناك نفس كتب لها الحياة أو الموت على الفجور والطغيان والضلال ، فهل يستطيع الإنسان أن يقف أمام الحكم الذى صدر مقدما من الله؟ وليس كذلك فحسب بل أن الله هو المحرض وهو المحرك وهو الذى يلهم الإنسان بفجوره وطغيانه وضلاله، وحاشا لله أن يفعل ذلك.
ونرد بما يلي:
هل العلم المسبق أو بالأصح علم الغيب لله جل وعلا يعني إجبار الناس على شىء ما، الله جل وعلا علم أن ذلك الشخص سوف يعمل كذا وكذا وسوف يذهب إلى جهنم أو يذهب إلى الجنة وهذا من كمال قدرة الخالق جل وعلا، وأي كلام خلاف ذلك يدل على عجز واضح وجلي في قدرة الخالق وبالتالي يفقد صفة أن يكون خالق عظيم كامل.
ثم يقول النصراني:
والنص التإلى يذكر أن " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " ( سورة الإسراء / 16)  وبتحليل النص [وأمٌرْنا مترفيها] أى جعلنا مترفيها أمراؤهم وحكامهم ، وهذا يعنى أنهم عند امتلاكهم زمام الحكم والسلطة سوف يجعلون الناس يفسقون وينحرفون ، وبالتإلى يحق قول الله على هذه القرية، ثم يدمرهم تدميرا حسب الخطة التى سبق وأعدها ضد هؤلاء البشر ولم يعرف على أى أساس حدد الله الناس وصنفهم قبل أن يولدوا! إلا أن القرآن ذكر: " يريد الله ألا يجعل لهم حظاً فى الآخرة" ( سورة آل عمران/ 176) "يعذب من يشاء ويرحم من يشاء" (سورة العنكبوت/ 21)
ونرد بما يلي:
 مازلنا  نسير في دوامة التفسير بهوى النصارى، قوله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)" الإسراء
وتفسير الآية أن الله جل وعلا إذا أراد أن يهلك قرية ظالمة أمر مترفيها أي ظالميها باتباع الحق  ولكنهم رفضوا وفسقوا فيها فحق  بعد ذلك عليها العذاب، ومما يؤيد ذلك قول الإمام الشوكاني في تفسيره حيث قال: فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شيء غير المعصية، لأن المعصية منافية للأمر مناقضة له، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق، لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ويناقضه.
كذلك ممكن أن يقال أن القرى الظالم أهلها يسلط الله عليهم  شرار الخلق  ليسوموهم سوء العذاب، والتسليط لا يكون بالجبر ولكن بالإلهام كما بينا ذلك سابقا.
ويتحدث القرآن عن نفس كُتِب لها مسبقا الإيمان بالإسلام (شرح الله صدره) " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " ( سورة الزمر/ 22).
أي وسعه لقبول الحق وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير كذلك بدون جبر أو قهر، مثال ذلك كمن يقعد مع شخصين  فيتحدث مع كل منهما على حدا بالحكمة والكلمة الحسنة ويوضح لهما طريق الخير ويطمئنهما، فتكون النتيجة أن أحدهما يهتدي والآخر يضل فنقول أن الأول  شرح صدره للحق فهو على نور والآخر ضيق قلبه للحق فهو على ضلال. فليس الأمر مساعدة لأحدهما دون الآخر ولكن لكلاهما والنتيجة أن أحدهما يعقل والآخر لا.
يقول النصراني:
 صنف الله للإنسان قبل أن يولد كل أعماله مسبقا إذا كانت شراً أو خيراً بل أن الله خطط فى التنفيذ وشجع وألهم ووضع العراقيل والمعوقات واتخذ كل الأساليب لتنفيذ ما أعد له فى اللوح المحفوظ فأصبح الإنسان لا حرية فى الإختيار ولا تسير حياته حسب إرادته فماذا يطمع الإنسان من الله ؟، قال تعالى"أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41") النجم، والمعنى: ليس له أجر سعيه وجزاء عمله ولا ينفع أحداً عمل أحد.
ونرد كالتالي:
حقيقة لا أعرف الربط بين هذه الآية وبين القدر والقهر والجبر، إلا  أن هذا النصراني يعتقد أن الانسان مسير ثم يعرض عليه سعيه (عمله) يوم القيامة  وهذا السعي نتاج الجبر . مثال على ذلك : أن أجبر إنسان على القتل ثم  أقوم بإعدامه على فعلته التي أُجبِر على فعلها. وهذا محال ومستحيل الحدوث في تصرفات الإنسان، فهل يعقل أن يعمل الانسان أي عمل شخصي بدون وجود أي ضغط نفسي أو خارجي  ثم يقول أنا لم أفعله بكامل إرادتي إذا كان كذلك فنحن نسأل طارح الشبهة: هل اجبرك أحد على كتابة ما كتبت وأجبرك على عدائك للإسلام ؟؟؟ أم أنك كتبتها بمحض إرادتك وبكامل اقتناعك وباختيارك ؟
يكمل النصراني شبهته فيقول:
والحديث الذى رواه البخارى يوضح الغامض من الأمور فقد روى عن علي بن أبى طالب قال : " كنا فى بقسع الغرقد ، فأتانا رسول الله فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته قال : " ما منكم من أحد وما نفس منفوسة إلا مكانها من الجنة أو من النار وإلا كتب شقية أو سعيدة" قال رجل : " يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ " فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ؟ قال: " أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء  ( فيرسل الله الشياطين لدفع البشر للضلال والفساد طبقا لما جاء فى القرآن " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " (سورة الزخرف / 36-39) ثم قرأ (محمد نبي الإسلام) " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ( حديث رواه البخارى ج3 ص216)
ونجيب النصراني:
بأنه لا يوجد غموض بل إن الحديث فيه جواب الإشكال، فكل نفس قد علم الله مصيرها ونهاية حالها في الدنيا والآخرة  وهذا من كمال قدرة الله وكمال علمه الذي وسع كل شىء، فعلم الله بنهاية كل نفس بدليل الكتابة في اللوح المحفوظ، فعندما  يعلم الله أن الكافر في النار لا يعني أنه قد أجبره على ذلك.
ولكن إذا قلت أن الله لم يعلم نهاية كل نفس ومصيرها  فهذا دليل عجز واضح للرب، وهذا جلي في الكتاب المقدس إذ يظهر يسوع -الذي ألبسه النصارى لباس الرب وهو منه بريء-  يجهل علم الغيب
وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلاَمِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هَذَا وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟ " (مت24/3)
ولكي لا يسأله التلاميذ عن موعد حدوث ذلك قال لهم " وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ إلاَّ الآبُ." (مر13/32).

وبالعودة إلى الشبهة فإن نهاية الشبهة جواب للشبهة، قال رجل :
 "يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ " فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ؟ قال: " أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء  ( فيرسل الله الشياطين لدفع البشر للضلال والفساد طبقا لما جاء فى القرآن " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " ( سورة الزخرف / 36-39 ) ثم قرأ (محمد نبي الإسلام) " فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى ( حديث رواه البخارى ج3 ص216).
ثم يقول النصراني:
وهناك مواضيع أخرى أدخلها القرآن تحت عنوان القدر الإلهى هى:- ويقول الشيخ مصطفى : "القدر فى مفهوم الإسلام، هو الذى جاء بي إلى هذا العالم بقصد الابتلاء"، "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ، وإنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" ( سورة الإنسان 2-3).
ونرد على النصراني بأنه:
 لا خلاف على ما ذكر أعلاه فالإنسان خُلق للابتلاء وقد هداه الله للحق والشكر كما هداه للباطل والكفر فليس هو من أجبر الإنسان على الكفر ولم يجبره على الإيمان ولا أجبر من عبد الأصنام على ذلك ولم يجبر عباد الكواكب مثلهم ولا أجبر عباد الصليب على عبادته ولا أجبر المسلم على التوحيد.
يُكمل النصراني شبهته فيقول:
 وقدر حياة الإنسان بسنين معدودة لا يستطيع الإنسان أن يعيش أكثر أو أقل " ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعه ولا يستقدمون " (سورة الأعراف 34)، وقدر الرزق وجعله فى يد الله كيف يشاء ومتى يريد ولا دخل للإنسان ولا حيله فى ذلك " الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوى العزيز"( سورة الشورى/ 19)، وقدر السعادة والشقاء فى الحياة وجعلها مكتوبة منذ الأزل " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد " (سورة هود / 105 ) وفى خطبة لعبد الله بن مسعود قال فيها : "الشقى من شقى فى بطن أمه" ( القاضى أبى بكر الباقلانى ، إعجاز القرآن ج1 ص 195)
ونرد على النصراني بما يلي:
 الله علم أجل كل انسان  فهو كاتب ذلك وعلم رزقه فهو كاتبه وعلم حاله في الدنيا والآخرة فهو كاتبه أيضا وهذه قدرة الخالق ولا يكون الخالق خالقا إذا انتقص في مثل هذه الأمور، أما إذا قلنا أن الله لم يخلق أجل الإنسان فإنه لن يعلم نهاية أجله  ويكون الإنسان خالق أجله وعمره وإن كان ذلك محدد بعلم إنساني فقط فيكون الله جاهل والعياذ بالله والإنسان عالم وبالتالي يفوق علم الإنسان علم الله، أو أن يجهل الإنسان أجله والله يجهل ذلك أيضا فيتساووا في العلم وهنا يكون الخالق لم يخلق هذا الإنسان أي يكون الخالق غير خالق. والحق أن الإنسان يجهل أجله وغير خالق لقدره والله يعلم غيبه فهو خالقه وخالق قدره.
♥وما بقى من كلام هذا النصراني  تكرار لما ذكره فيما سبق أن الانسان في ظل الإسلام مسير تسيير تام وأنه ليس من العدل أن يدخل الإنسان النار وهو مسير .......... إلى آخر كلامه.
إذن لنلخص كلام شبهاته بنقاط
                                                       ·الانسان في ظل الإسلام يهدى ويضل رغما عنه
                                                       ·رزقة مكتوب
                                                       ·أجله مكتوب
فكأن الإنسان في ظل الإسلام كما يدعي هذا الضال عبارة عن روبوت حي لا أكثر ولا أقل !

بين الجبر والقدر (من شرح العقيدة الطحاوية لخالد بن عبد الله بن محمد المصلح):
وخصماء الله في القدر فريقان: الفريق الأول:
هم الذين نفوا تقدير الله للأشياء قبل وجودها، فنفوا القضاء والقدر، وهم غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله لم يقدر شيئاً، وإن الأمر أنف، وهذه بدعة ظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، وردها ابن عمر وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل هذه البدعة كانت في الذين خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين في القدر، كما جاء في حديث أبي هريرة : (أن المشركين جاءوا يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله جل وعلا قوله: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" [القمر:49]) فإن هذا جواب على من خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الله عز وجل للأشياء قبل وقوعها.
إذاً: الفريق الأول الذين خاصموا الله في القدر: هم غلاة القدرية الذين نفوا القضاء والقدر وعطلوه، وقالوا: إن الله جل وعلا لم يقدر شيئاً.
الفريق الثاني: هم الذين عارضوا الشرع بالقدر، فعطلوا الأمر والنهي، وهم الجبرية الذين قالوا: إنه ما من شيء إلا بقضاء الله وقدره، وعلى هذا لا يلام العاصي على معصيته، ولا يشكر المحسن على إحسانه؛ لأن إحسان المحسن بقدر الله، ومعصية العاصي بقدر الله، فعلى هذا جعلوا القدر حجة على تعطيل الشرع، وهذا قد ذكره الله جل وعلا عن الكفار في مواضع من كتابه، كقول الله جل وعلا: "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا" [الأنعام:148]، فاحتجوا على تعطيل الطاعة والتوحيد بالقدر.
ومن المواضع التي أبطل الله جل وعلا فيها الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة قوله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ" [يس:47]، هناك كان الاحتجاج بالقدر على ترك التوحيد، وهنا الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة، وبقي الاحتجاج بالقدر على المعصية وهو في قول إبليس: "فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ" [الأعراف:16]، فجعل فعله ومعصيته بسبب إغواء الله عز وجل، فنسبها إلى الله جل وعلا، واحتج بها على استمراره في الغي والضلال.
**فتبين أنه لا حجة في القدر على ترك التوحيد، ولا حجة في القدر على إتيان المعصية،
ولا حجة في القدر على ترك الطاعة، بل لله الحجة البالغة على كل أحد، فإنه ما من أحد إلا وله الاختيار الكامل في فعل ما شاء وترك ما شاء، وهذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الله عز وجل كما سيأتي.
والمراد أن كلام المؤلف رحمه الله في هذا الموضع فيه رد على فرقتين ضالتين في باب القضاء والقدر، وهما: غلاة القدرية والجبرية، الذين عارضوا الشرع بالقدر، والذين نفوا القدر وعطلوه، قال رحمه الله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) هذا الرد على الفريق الثاني ممن خاصم الله في القدر. قال رحمه الله: [ ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم ].
يبيّن المؤلف رحمه الله في هذا المقطع:
 أن إثبات المشيئة والإرادة للمخلوق ليس ذلك على وجه الاستقلال والانفصال والانفكاك عن مشيئة الله عز وجل، بل ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولذلك قال: [ ومشيئته تنفذ ] أي: مشيئة الرب جل وعلا تنفذ أي: تجوز، فهو جل وعلا ذو المشيئة النافذة، والقدرة النافذة، لا راد لما شاء، ولا مانع لما قدر وقضى، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، مشيئته تنفذ ولا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فإثبات المشيئة للعبد لا يعطل مشيئة الله عز وجل، وليس ذلك خارجاً عن مشيئة الله، بل مشيئة الله عز وجل محيطة بمشيئة عبده، كما قال سبحانه وتعالى: "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" [الإنسان:30]، وكما قال الله جل وعلا: "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [التكوير:29].
فمشيئة الله سبحان وتعالى محيطة بمشيئة العبد، لا خروج للعبد عن مشيئة الله عز وجل [فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن] وهذه المشيئة المذكورة في قوله: ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، يدخل في الإرادة الكونية، والإرادة الكونية هي معنى قول المؤلف رحمه الله وقول المسلمين: (ما شاء الله كان) -أي: حصل ووجد، (وما لم يشأ لم يكن) أي: لا حدوث له ولا حصول.



اعتقاد أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء والرد على المعتزلة والقدرية في ذلك:
ثم بعد أن أثبت عموم مشيئة الرب سبحانه وتعالى لكل شيء، وأنه لا خروج لمشيئة العبد عن مشيئة الله عز وجل؛ قال رحمه الله: [ يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً] جل وعلا، وفي هذه العبارة الرد على المعتزلة والقدرية الذين قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه، فالهدى والضلال ليس من فعل الله عز وجل ولا من مشيئته ولا من إرادته، إنما هي من مشيئة العبد وإرادته وفعله المستقل عن الله جل وعلا.
فقوله: (يهدي من يشاء) يرد بذلك على المعتزلة والقدرية الذين قالوا: إن الله لا يخلق فعل العبد، بل أفعال العباد خارجة عن قدرته ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، ثم كيف يفسرون الهداية المذكورة في الكتاب؟ يفسرون الهداية المذكورة في الكتاب بأنها هداية البيان والإرشاد والدلالة، فيحملون كل آية أضاف الله فيها الهداية إليه على أنها هداية بيان وإرشاد ودلالة، وهذا لا إشكال أنه تحريف للكلم عن مواضعه، فإن الآيات التي فيها أن الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء، تشمل هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وتشمل هداية التوفيق للعمل، فإنه إذا لم يوفق الله جل وعلا العبد للعمل فإنه لا إصابة في عمله، ولا توفيق له.
ومما يدل على أن الهداية المضافة إلى الله جل وعلا تشمل هداية التوفيق للعمل قول الله جل وعلا فيما ذكره في أبي طالب " إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ " [القصص:56]، فالهداية المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم هي هداية التوفيق والعمل، وأما الهداية المثبتة لله عز وجل فهي هداية الإرشاد والدلالة والبيان وهداية التوفيق إلى العلم.
فقوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً) أي: أن الهداية منه سبحانه وتعالى فضلاً ومنة على العبد، وهذا فيه الجواب عن السؤال: كيف يهدي فلاناً ولا يهدي فلاناً؟ نقول: الهداية فضل الله ومنته ورحمته وهو جل وعلا أعلم بمحال الفضل من غيره، فإن الله سبحانه تعالى يمن على من يشاء من عباده لعلمه بأن الممتن عليه بالهداية المتفضل عليه بالاستقامة أهل لذلك، أي: أنه يستحق ذلك، وأنه صالح لهذا، قال الله سبحانه وتعالى في جواب المعترضين على الرسل في أنهم خصوا بالرسالة: " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ " [الأنعام:124]، الله سبحانه وتعالى جعل الفضل في محله، وجعله لفضل الرسالة في الرسل لعلمه بأنهم أهل لها.
قال ابن القيم رحمه الله: والله جل وعلا أعلم بمحال الفضل في الرسل وأتباعهم، فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدين كما قال سبحانه وتعالى: " وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " [القصص:56] أي: أعلم بمن يستحق الهداية فيوفقه إليها وأعلم بمن يستحق الاستقامة فيوفقه إليها، وهذا معنى قوله رحمه الله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً) أي: الهداية إلى الصراط المستقيم توفيقاً وعملاً، ويعصم من المعاصي ويعافي من الذنوب والخطايا فضلاً منه سبحانه وتعالى.
قوله: (ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً) أي: عدلاً، فهو جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ما منعهم الله جل وعلا الفضل وهم أهل له، بل الأمر كما قال الله جل وعلا: " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " [الصف:5]، فإنهم لما استحقوا الزيغ أضلهم وخذلهم وخلى بينهم وبين أنفسهم؛ ولذلك اعلم أن كل معصية تقع فيها فإنها من خذلان الله جل وعلا؛ لأنه خلى بينك وبينها، ولو أن الله جل وعلا أكرمك لعافاك وعصمك، وهذا معنى قوله رحمه الله في هذه العبارة: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً). ا.هـ.
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: مراتب ذلك -أي القدر- أربع لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتكميلها : الإيمان بأنه بكل شيء عليم، وأن علمه محيط بالحوادث، دقيقها وجليلها ، وأنه كتب ذلك باللوح المحفوظ ، وأن جميعها واقعة بمشيئته وقدرته.
الأول: الإيمان بأن الله تعالى عالم  بكل  صغيرة  وكبيرة  جملة وتفصيلا:
قال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المائدة:97)  وقال تعالى (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحجرات:16)  وقال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة:7)  وقال تعالى (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور) (التغابن:4) .
الثاني : الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء:
قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرض وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)  وقال تعالى (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (القمر:52) ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) رواه مسلم (2653) .
الثالث : أنه لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بإرادة الله ومشيئته الدائرة بين الرحمة والحكمة يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته:  قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) .
الرابع: أن الله تعالى خالق كل شيء:
قال تعالى: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد: 16) وقال تعالى (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر:62)  وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96) (انظر : شرح لمعة الاعتقاد لشيخنا العلامة ابن عثيمين /51 معارج القبول للشيخ الحكمي 2/328 السلفية  شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل  لابن القيم  والقضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة د. عبد الرحمن المحمود).
ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مع ذلك مكَّن العباد من أفعالهم فيفعلونها اختيارا منهم بمشيئتهم وقدرتهم . كما قال الله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرض إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) (الحج: 70) وقال: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ  (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29)  قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مبينا مذهب أهل السنة في أفعال العباد: (والعباد فاعلون حقيقة ، والله خالق أفعالهم ، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم ، وللعباد قدرة على أعمالهم ، ولهم إرادة والله خالق قدرتهم وإرادتهم ، كما قال تعالى ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ  (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (التكوير:29)  ا.هـ (الواسطية مع شرح هراس ص )65
وقال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: "ومن صفات الله -تعالى- أنه الفعال لما يريد ولا يكون شيء إلا بإرادته ، ولا يخرج شيء عن مشيئته ، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُط في اللوح المسطور  أراد مالعالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه ، ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء:23)، وقال تعالى: ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان:2)، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرض وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)  وقال تعالى ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (الأنعام :125) وروى ابن عمر : أن جبريل عليه السلام قال للنبي –صلى الله عليه وسلم – ما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره). فقال جبريل: صدقت. رواه مسلم، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( آمنت بالقدر خيره وشره حلوه ومره)، ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر (وقني شر ما قضيت) ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه بل يجب أن نؤمن بأن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل، قال الله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء : 165). ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحدا على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة :286) وقال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن :16)، وقال تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (غافر :17) فدل على أن للعبد فعلا وكسبا يُجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره" ا.هـ لمعة الاعتقاد /194 مطبوع ضمن الجامع للمتون العلمية.
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى- ذاكرا شبهة الجبرية ومجيبا عنها: "إن الجميع يقولون بما جاء به الكتاب والسنة، من إثبات الأصلين: (أحدهما): الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها -أعيانها، وأوصافها، وأفعالها- بقضاء وقدر، لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته، بل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. (والأصل الثاني): أن أفعال العباد -من الطاعات، والمعاصي، وغيرها- واقعة بإرادتهم وقدرتهم: وأنهم لم يجبروا عليها: بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم : من القدرة والإرادة. ويقولون: لا منافاة بين الأمرين: فالحوادث كلها -التي من جملتها أفعال العباد- بمشيئة الله وإرادته، والعباد هم الفاعلون لأفعالهم، المختارون لها. فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها، واختاروا ترك المعاصي فتركوها. والآخرون اختاروا فعل المعاصي وفعلوها، واختاروا ترك الأوامر فتركوها. فاستحق الأولون المدح والثواب، واستحق الآخرون الذم والعقاب. ولم يجبر الله أحدا منهم على خلاف مراده واختياره. فلا عذر للعاصين إذا عصوا وقالوا: إن الله قدرها علينا، فلنا بذلك العذر. فيقال لهم: إن الله قد أعطاكم المكنة والقدرة على كل ما تريدون، وأنتم -بزيغكم وانحرافكم- أردتم الشر ففعلتموه، والله قد حذركم، وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه، وأراكم سبيل الرشد فتركتموه، وسبيل الغي فسلكتموه. وإذا أردت زيادة إيضاح لهذا المقام: فإنه من المعلوم لكل أحد أن كل فعل يفعله العبد، وكل كلام يتكلم به فلا بد فيه من أمرين: قدرة منه على ذلك الفعل والقول، وإرادة منه  فمتى اجتمعا: وجدت منه الأقوال والأفعال. والله تعالى هو الذي خلق قدرة العبد وإرادة العبد، وخالق السبب التام خالق للمسبب. فالله تعالى خالق أفعال العباد، والعباد هم الفاعلون لها حقيقة. فهذا الإيراد الذي أورده هذا المشكك وما أشبهه من الإيرادات التي يحتج بها أهل المعاصي بالقدر يجيبونهم بهذا الجواب المفحم، فيقولون: دلت أدلة الكتاب والسنة الكثيرة: على أن الله خالق كل شيء وعلى كل شيء قدير وأن كل شيء بقضاء وقدر: الأعيان، والأوصاف، والأفعال. ودلت -أيضا- أدلة الكتاب والسنة: أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة، بقدرتهم واختيارهم. فإنه تعالى نسب إليهم، وأضاف إليهم كل ما فعلوه: من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية. وأنه تعالى مكنهم من هذا، ومن هذا. ولكنه تعالى حبب إلى المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان: وولى الآخرين ما تولوا لأنفسهم: حيث اختاروا الشر على الخيرة وأسباب العقاب على أسباب الثواب. وهذا -كما أنه معلوم بالضرورة من الشرع- فهو معلوم بالحس الذي  لا يمكن أحدا المكابرة فيه: فإن العبد يفرق بين أفعاله التي يقسر ويجبر ويقهر عليها، وبين أفعاله التي يختارها ويريدها، ويحب حصولها" ا.هـ الدرة البهية شرح القصيدة التائية (149).
وسئل شيخنا العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- مثل هذا السؤال (هل الإنسان مسير أو مخير؟)
فأجاب -رحمه الله تعالى-:
 "على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال
وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها‏؟‏
 إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير ‏
ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره‏؟‏
هل يصيبه المرض باختياره‏؟‏
 هل يموت باختياره؟‏
إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير.
والجواب‏:‏
 أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب واسمع
 إلى قول الله تعالى:‏ ‏(فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ مَآباً) (النبأ:39)
وإلى قوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (آل عمران :152)
وإلى قوله تعالى: ‏(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الإسراء:19)
وإلى قوله تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (البقرة :196)
حيث خير الفادي فيما يفدي به‏.‏ ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله
علمنا أن الله تعالى قد أراده لقوله تعالى‏:‏ ‏(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29)
 فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى‏،
وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة‏." ا.هـ.
وقال –رحمه الله تعالى– : " هل الإنسان مسير أو مخير؟ وهل له إرادة أو ليس له إرادة؟ فنقول: الإنسان مخير إن شاء آمن وإن شاء كفر بمعنى أن له الاختيار وإن كان ليس سواءً لا يستوي الكفر والإيمان لكن له اختيار أن يختار الإيمان أو أن يختار الكفر وهذا أمرٌ مشاهدٌ معلوم فليس أحدٌ أجبر الكافر على أن يكفر وليس أحدٌ أجبر المؤمن على أن يؤمن بل الكافر كفر باختياره والمؤمن آمن باختياره كما أن الإنسان يخرج من بيته باختياره ويرجع إليه باختياره وكما أن الإنسان يدخل المدرسة الفلانية باختياره ويدخل الجامعة الفلانية باختياره وكما أن الإنسان يسافر باختياره إلى مكة أو إلى المدينة أو ما أشبه ذلك وهذا أمرٌ لا إشكال فيه ولا جدال فيه ولا يمكن أن يجادل فيه إلا مكابر نعم هناك أشياء لا يمكن أن تكون باختيار الإنسان كحوادث تحدث للإنسان من انقلاب سيارة أو صدم أو سقوط بيتٍ عليه أو احتراق أو ما أشبه هذا هذا لا شك أن لا اختيار للإنسان فيه بل هو قضاءٌ وقدر ممن له الأمر ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى الكافرين على كفرهم لأنهم كفروا باختيارهم ولو كان بغير اختيارٍ منهم ما عوقبوا ألا ترى أن الإنسان إذا أكره على الفعل ولو كان كفراً أو على القول ولو كان كفراً فإنه لا يعاقب عليه لأنه بغير اختيارٍ منه ألا ترى أن النائم قد يتكلم وهو نائم بالكفر وقد يرى نفسه ساجداً لصنم وهو نائم ولا يؤاخذ بهذا لأن ذلك بغير اختياره فالشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه لا يعاقب عليه فإذا عاقب الله الإنسان على فعله السيئ دل ذلك على أنه عوقب بحقٍ وعدل لأنه فعل السيئ باختياره، وأما توهم بعض الناس أن الإنسان مسير لا مخير من كون الله سبحانه وتعالى قد قضى ما أراد في علمه الأزلي بأن هذا الإنسان من أهل الشقاء وهذا الإنسان من أهل السعادة فإن هذا لا حجة فيه وذلك لأن الإنسان ليس عنده علمٌ بما قدر الله سبحانه وتعالى إذ أن هذا سرٌ مكتوم لا يعلمه الخلق فلا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غداً وهو حين يقدم على المخالفة بترك الواجب أو فعل المحرم يقدم على غير أساس وعلى غير علم لأنه لا يعلم ماذا كتب عليه إلا إذا وقع منه فعلاً فالإنسان الذي يصلي لا يعلم أن الله كتب له أن يصلي إلا إذا صلى والإنسان السارق لا يعلم أن الله كتب عليه أن يسرق إلا إذا سرق وهو لم يجبر على السرقة ولم يجبر المصلي على الصلاة بل صلى باختياره والسارق سرق باختياره ولما حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأنه: (ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار) قالوا: يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل؟ قال : (لا اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) فأمر بالعمل والعمل اختياري وليس اضطرارياً ولا إجبارياً فإذا كان يقول -عليه الصلاة والسلام-: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) نقول للإنسان اعمل يا أخي صالحا اعمل صالحاً حتى يتبين أنك ميسر لعمل أهل السعادة وكلٌ بلا شك إن شاء عمل عملاً صالحاً وإن شاء عمل عملاً سيئاً ولا يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على الشرع فيعصي الله ويقول هذا أمرٌ مكتوب علي يترك الصلاة مع الجماعة ويقول هذا أمر مكتوب علي يشرب الخمر ويقول هذا أمر كتب علي يطلق نظره في النساء الأجنبيات ويقول هذا أمرٌ مكتوبٌ علي ما الذي أعلمك أنه مكتوبٌ عليك فعملته، أنت لم تعلم أنه كتب إلا بعد أن تعمل لماذا لم تقدر أن الله كتبك من أهل السعادة فتعمل بعمل أهل السعادة، وأما قول السائل هل للإنسان إرادة؟ نقول: نعم له إرادة بلا شك قال الله تبارك وتعالى: ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ )(آل عمران : 152) وقال تعالى ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ )(الإسراء : 19) وقال تعالى ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى :20)  والآيات في هذا معروفة وكذلك الأحاديث معروفة في أن الإنسان يعمل باختيار وإرادة ولهذا إذا وقع العمل الذي فيه المخالفة من غير إرادة ولا اختيار عفي عنه قال الله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة :28)، فقال الله: قد فعلت. وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) (الأحزاب :5) وهذا أمرٌ ولله الحمد ظاهر ولا إشكال فيه إلا على سبيل المنازعة والمخاصمة، والمنازعة والمخاصمة منهيٌ عنهما إذا لم يكن المقصود بذلك الوصول إلى الحق وقد خرج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذات يوم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فتأثر من ذلك عليه الصلاة والسلام لأن هذا النزاع لا يؤدي إلى شيء إلا إلى خصومة وتطاول كلام وغير ذلك وإلا فالأمر واضح ولله الحمد." ا.هـ
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في بقيع الغرقد في جنازة فقال: "ما منكم من أحد إلاَّ وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل، فقال: اعملوا فكل ميسر لما خُلق له"، ثم قرأ قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى"، إلى قوله تعالى: "فسنيسره للعسرى"، ورواه أيضاً مسلم (2647) وأصحاب السنن الترمذي (2136)، وابن ماجة (78)، وأحمد (621(. (من كتاب هل الإنسان مسير أو مخير د. نايف بن أحمد الحمد).
وخلاصة القول:
 أن الله عز وجل  خلق كل  شىء وقدر كل شىء قبل خلقه جل وعلا لكل شيء، قال الحق جل وعلا: "أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)" النحل. فأمر الله قد قدر وحسم منذ الأزل ولكن  نحن لا نستعجله  لأنه سيأتينا كما هو مقدرا لنا.
والسؤال الأهم هو هل الإنسان مخيرا أم مسيرا ؟
قال الحق جل وعلا: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)" الحج.
والسجود هو السير وفق مشيئة الخالق عز وجل، ومن هذه الآية الكريمة نرى أن الانسان مخير ومسير في نفس الوقت  فهو ينام ويأكل ويشرب ويموت ويولد وغيرها من التصرفات التي يجبرعلى فعلها الانسان مثله مثل الموجودات الاخرى جمادات أو كائنات، فهنا  يعتبر  مسيرا، وفي نفس الوقت فأن الانسان  مخيرا  في تصرفاته وتفكيره  وخياراته  ورغباته ومشيئته فهو الذي يقتل ويسرق ويزني ويكفر وهو الذي يؤمن  ويصلي ويساعد الآخرين ... إلخ، فهو باختصار من  يعمل الخير أو الشر ، قال تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)" البلد، والنجدين هو طريق الخير وطريق الشر، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، رواه البخاري برقم 1910 ورواه غيره.
**فالانسان يعلم الخير ويعلم الشر وهذا ما جاء في الحديث ويصدقة العقل، إذن فالإنسان مسير في خلقته ومخير في قراراته  بمشيئة الله جل وعلا، كما ذكر الله ذلك في كتابة الكريم بقوله: "لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)" التكوير،
 قد يسأل سائل ويقول كيف يتم هذا، فنرد عليهم كما رد علماء السلف على هذه الحيثية.
يقول عمر سليمان الأشقر في كتابه القضاء والقدر الفصل الرابع )حدود نظر العقل في القدر): "يقول أبو المُظَفَّر السمْعَاني فيما حكاه عنه ابن حجر العسقلاني: " سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سِرٌّ من أسرار الله تعالى، اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب.
ويقول الطحاوي رحمه الله تعالى: " وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: (لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون) [الأنبياء: 23].
وقال الآجُرِّيُّ: " لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر، لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمن العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق".
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: " من السنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث، ولم يبلغه عقله، فقد كفى ذلك، وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر "ا.هـ
فالعقيدة الحقة هي أن الانسان مابين القدرية والجبرية، وأن السؤال في هذا نوع من أنواع العبث ومن يبحث في هذه الامور لن يصل إلى أي نتيجة  لأن القدر سر من أسرار الله جل وعلا كما ذكر الامام الآجري.
الرد على منهج القدرية أو المنهج القائل بأن الإنسان يخلق قدره وأن الله الخالق جل وعلا ليس له أي يد في ذلك :
نقول إذا كان الإنسان يخلق قدره بنفسه دون أي تدخل من الخالق جل وعلا فهذا يعني عجز رهيب منسوب للإله ولقدرته وبالتالي يصبح الإله مفقود ومنه يكون ليس إله بل أحد أشكال المخلوقات ذات القدرات الخارقة وليس إله.
ومن هذا الإشكال نصل إلى أن هذا الإله المزعوم والعاجز عن خلق قدر مخلوقاته  لا يستطيع  تغيير قدر مخلوقاته الذي ارتسموه لأنفسهم، لا يستطيع هذا الإله هداية أو ضلال أي إنسان.
لا يعلم الغيب بشكل عام فهو لا يعلم نهاية مجريات الكون الذي خلقه، وبالتالي قد يتمرد عليه هذا الكون ويصبح  لا نهائي ويسقط حق الإله في يوم الدينونة، لا يستطيع هذا الإله بالتنبوء بالمخلوقات قبل خلقها وبالتالي يكون غير خالق لها فهي تخلق نفسها وفقا للقدر الذي خلقه أسلافها لها، هذا الإله عاجز عن رزق مخلوقاته، هذا الإله عاجز عن شفاء مخلوقاته، هذا الإله عاجز عن إتيان أو أخذ الحياة من مخلوقاته، وأمام الموت يسقط هذا الوهم  فإذا قلنا أن الإنسان يخلق قدره من حيث طريقة موته، كأن يختار المنتحر إرادته وخياره الحر بأن ينهي حياته بالانتحار أليس هذا الخيار الحر من قبل هذا الإنسان يعتبر خلق لقدره وهو الموت بالانتحار دون تدخل الخالق كما يزعم الكاذبون والمنحرفون، ولكن نلاحظ أن ما سبق يناقض  طرق أخرى للموت تكون إرادة الإنسان مسلوبة  ويكون عديم الخيار بل ومسير، مثلا الموت  بالمرض، هل لدى الإنسان الخيار الكامل في جعل جسده يصاب بالمرض أيا كان ؟؟ أم أن هذا المرض يصاب به الإنسان دون خيار أو قدرة أي لم يكن لهذا الإنسان الحرية في خلق قدره هنا، وبالتالي كان الخالق هنا هو من خلق قدر هذا الإنسان وابتلاه بالمرض الذي أماته، نلاحظ هنا أن الإنسان لم يملك قدره بل فرض عليه.
فهل يعقل أن الانسان يخلق قدره المحتوم والذي أوصله إلى موته في بعض الحالات وجهلها الخالق، وفي بعض الحالات الأخرى خلق الخالق قدر هذا الإنسان  وخلق له طريقة موته أي علمها الله وجهلها هذا الإنسان، هذا أمر غريب ومتناقض، ومما سبق يمكن لنا أن نقيس ذلك على كل تصرفات الإنسان  فكل تصرف حر للإنسان ممكن أن يوصله إلى النهاية المحتومة وهي الموت، والموت إما أن يملكه هذا الإنسان أو يملكه خالق هذا الإنسان، والواقع والمنطق والتجربة (كما مثلنا بالمرض) يقول إن الموت يملكه الخالق جل وعلا، وبالتالي فإن خيار أو مشيئة الانسان حرة تحت مشيئة الخالق جل وعلا، مخير غير مجبر معلوم غير مجهول، مثال على ذلك: كالإنسان الجالس على فرع شجرة ومعه منشار ينشر به أصل هذا الفرع فأنت تعلم مئة بالمئة أنه سوف يسقط لا محالة وهو كذلك يعلم أنه سوف يسقط بفعله ذلك ولكن هل أنت من أجبره على ذلك الفعل طبعا لا ولكن علمت علم اليقين نهايته.
وعلم الله أكبر من ذلك فهو يعلم تفاصيل الحدث من قبل خلق الكون ويعلم نهاية الحدث إلى ما بعد نهاية الكون فالله خالق كل شىء ومقدر المقادير وأعطى كل إنسان الخيار (المشيئة) بعلمه ومشيئته.
وأكرر أنه مهما تعمقنا في مسألة القدر لمحاولة فهمها ومعرفة ماهيتها بالتفصيل فإننا سوف نعجز لسبب بسيط أنه من علم الله ومن أسراره لا يطلع عليه أحد ولا يعلم كيف يكون أو كيف يتم إلا هو  قال تعالى: "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)" الحجر.
وخير ما أختم به في الرد على ادعاء القوم بخلق أقدارهم قوله تعالى: "وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)" يونس،
 فالآيتان السابقتان تظهر أن مشئية الإنسان من مشيئة الله وبنفس الوقت مخير في تصرفه وليس مجبر عليه وهذا من إعجاز الخالق وبيان كامل قدرته.

والآن هل الإنسان مخير أم مسير في المسيحية:
يقول النصراني عزت أندراوس التالي: هناك قضية كنا نتناقش فيها عندما كنا فى سن الشباب وهذه القضية هي هل الإنسان مسير أم مخير؟ وقد خرجنا بنتيجة أجمعنا عليها وهى أن الإنسان مخير وليس مسير، ولكن أغلق عن معرفته أمور هى ميلاده ومستقبله ومماته وله كامل الحريه فى اتخاذ قراراته التى يتحكم فيها عوامل داخلية وأخرى خارجية طبقا للظروف والملابسات ومدى فهمه للدافع ومدى خبرته وسنه وتفاعله مع الحدث ومدى معرفته الدينية .. إلخ واختياره ما بين الشر والخير هو الذى سيحدد محاسبته فنحن كما عرفنا أنه عندما أكل أبوينا الأولين من شجرة معرفة الخير والشر أصبح للإنسان كامل المعرفة فى الاختيار ما بين الشر والخير وبناء على أعمال الإنسان فى حياته التي ساسها حسب إرادته واختياره ومشيئته وميوله سيتم محاسبته وإذا كان القانون الإنساني القاصر يحاكم الإنسان على جرائمه فما بالك بالله.
الرد: يقول المسيحي عزت اندراوس: وقد خرجنا بنتيجة أجمعنا عليها وهي أن الإنسان مخير وليس مسير ، ولكن أغلق عن معرفته أمور هي ميلاده ومستقبله ومماته وله كامل الحرية فى إتخاذ قراراته" بالمعنى العامي الانسان يخلق قدره في جانب تصرفاته  ،فهل هذا صحيح ؟؟ نرى المسيحيين في صلواتهم في الكنائس أو خارجها يرددون صلاة  يقتبسونها من الإنجيل نقتطف منها هذا الجزء من إنجيل متى
6: 9 فصلوا انتم هكذا ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك
6: 10 ليات ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
ماهي هذه المشيئة ؟ يقول تادرس يعقوب ملطي في تفسيره أن المشيئة هنا هي طريق الله (طريق الخير)، ولكن من النص نفهم  ان المشيئة هنا هي الارادة القدر الرغبه  وكلها تؤكد خلق الله لقدر الانسان.
كذلك نرى من خلال رسائل بولس الرسول، دائما ما يفتتحها  بهذه الكلمات
1: 1 بولس المدعو رسولا ليسوع المسيح بمشيئة الله
ويفسر تادرس يعقوب ملطي هذه العبارة بالتالي: أنه رسول "بِمَشِيئَةِ اللهِ"، ليس له فضل في ممارسة العمل الرسولي، خاصة بكونه رسول الأمم، يدعوهم للاتحاد مع اليهود في جسد واحد. اختاره الله بمشيئته رسولاً ليحقق غايته الإلهية فيهم. حقًا إن تعبير "بِمَشِيئَةِ اللهِ" ليس غريبًا عن الرسول في افتتاحية رسائله، لكن ما تتسم به هذه الرسالة هو تكراره التعبير ست مرات (١: ١، ٥، ٩، ١١، ٥: ١٧، ٦: ١٦)، الأمر الذي لا نجده في الرسائل الأخرى، بل وفي الأسفار الأخرى سوى إنجيل يوحنا، ذلك لأن هذه الرسالة تكشف "سرّ المسيح" بكونه سرّ الكنيسة المجتمعة من اليهود والأمم، هذا السرّ يحقق مشيئة الآب الأزلية، ويتمم مسرته نحو البشرية.
يفضل بعض الدارسين ترجمة "مشيئة الله" بـ "قرار الله"، إذ يرون في النص ما يعني ليس مجرد الإرادة بل حركة عمل الله الحكيم والقدير والحيّ ككائن محب للبشر، أعلن هذه الحركة الأزلية خلال التاريخ بتدبيره الإلهي.
والكلام السابق لا يحتاج إلى تفسير أكثر بل واضح كل الوضوح ويبين أن مشيئة الله أزلية.
واذا رجعنا إلى رسالة بطرس الثانية  نرى التالي:
1: 21 لانه لم تات نبوة قط بمشيئة انسان بل تكلم اناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس
2: 1 و لكن كان ايضا في الشعب انبياء كذبة كما سيكون فيكم ايضا معلمون كذبة الذين يدسون بدع هلاك و اذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم يجلبون على انفسهم هلاكا سريعا
2: 2 و سيتبع كثيرون تهلكاتهم الذين بسببهم يجدف على طريق الحق
لاحظوا الكلمات السابقة بكل دقة
1: 21 لانه لم تات نبوة قط بمشيئة انسان بل تكلم اناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس
إذن الله هو الذي يهدي البشر ويجعل منهم الأنبياء والقديسين
ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على تعبير "القديسين" هنا بقوله: لاحظ أنه يدعو الرجال مع نسائهم وأطفالهم وخدمهم "قديسين". هؤلاء الذين دعاهم بهذا الاسم كما هو واضح من نهاية الرسالة، إذ يقول: "أَيُّتهَا الزوجات (النِّسَاءُ) اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ" (٥: ٢) وأيضًا: "أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ" (٦: ١)، "أَيُّهَا الْعَبِيدُ (الخدم)، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ" (٦: ٥). تأملوا مقدار البلادة التي استحوذت علينا الآن، فالقديس كل انسان صالح يدعو للخير.
ومما سبق فإن الهداية ليست من قبل مشيئة الانسان بل من قبل الله.
الفقرة الثانية تقول:
2: 1 و لكن كان ايضا في الشعب انبياء كذبة كما سيكون فيكم ايضا معلمون كذبة الذين يدسون بدع هلاك و اذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم يجلبون على انفسهم هلاكا سريعا .
هنا الرب يخبر بخبر غيبي مستقبلي عن ظهور أنبياء كذبة ينكرون الرب ويجلبون على أنفسهم الهلاك السريع، والسؤال يقول كيف علم الرب أن هناك أناس  سوف يتعمدون الكذب ويدعون النبوة ينكرون الرب ويجلبون على أنفسهم الهلاك السريع. أليس الكذب صفة اختيارية من صفات الشر والإنسان مخير بين الخير والشر وهو الذي يخلق ذلك لنفسه بعلمه لا بعلم الرب، أليس الإنسان هو من يخلق قدره في تصرفه؟! إذن هذا علم من الخالق يسبق الإنسان وبالتالي فإن مقولة أن الإنسان هو من يخلق قدره في تصرفه باطل من صريح الإنجيل.
الفقرة الثالثة تقول:
2: 2 و سيتبع كثيرون تهلكاتهم الذين بسببهم يجدف على طريق الحق
هذا أيضا علم مسبق من قبل الرب حيث يوضح أن أناس كثيرون سيضلون ويتبعون هؤلاء الأنبياء الكذبة. وهذا العلم المسبق يبين تناقض الإنجيل مع فكر المسيحية حول المشيئة والقدر ومسالة التخيير والتسيير.
أخيرا لقد رأيت في موقع مسيحي التالي: هل قضاء الله يعم الأعمال الشريرة؟الله لم يخلق الشر و لا يسر به و إنما قد يسمح الله بحدوثه و إن سمح يسمح بقدر معين فقط و يحول الله شر الأشرار إلى خير لمحبيه.
ونقول: الله لم يخلق الشر ، غريب فمن خلقه  ياترى ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟، واذا لم يخلق الله الشر فلماذا يرضي به  وبوجوده ولماذا لم يمنعه، ولماذا يعاقب صاحب الشر وهو لم يخلق هذا الشر، أليس الخير والشر وجدا ليمتحن الانسان من خلالهما في هذا الدنيا وبالتالي يستحق الفردوس أو الجحيم ، ومما سبق نصل لحقيقة واضحة وهي أن العقيدة النصرانية مبنية على أهواء وفلسفات متناقضة  تنكر ما تثبت وتثبت ما تنكر، وبالتالي على هذا النصراني أن ينظر لفكره المتناقض والذي لايقنع الطفل أو المجنون ويعالجه إن استطاع قبل الخوض في معتقدات الآخرين وهو جاهل بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق