الأحد، 6 ديسمبر 2015

الشبهة العاشرة (و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا )




الشبهة العاشرة (و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا )
قول المسيح عليه السلام : " و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا " [22]

و وجه استدلالهم بهذا النص أن غفران الخطايا أمر منحصر بالله سبحانه وتعالى ، فإذا كان للمسيح ذلك السلطان، فهذا يعني أنه الله تعالى.



الرد على هذه الشبهة :

أولا: لمناقشة هذه الشبهة علينا أن نرجع إلى النص الكامل للواقعة التي جاء هذا الكلام للمسيح فيها.

يبتدأ الإصحاح التاسع من إنجيل متى بذكر هذه الواقعة فيقول :

" فدخل السفينة و اجتاز و جاء إلى مدينته. و إذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحا على فراش. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج ثق يا بني. مغفورة لك خطاياك. و إذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يجدف. فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم. أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم و امش؟ و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا. حينئذ قال للمفلوج. قم احمل فراشك و اذهب إلى بيتك. فقام و مضى إلى بيته. فلما رأى الجموع تعجبوا و مجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا " متى: 9 /1 ـ 8.

هناك أمران في هذا النص تنبغي ملاحظتهما لأنهما يلقيان ضوءا على حقيقة سلطان السيد المسيح عليه السلام لغفران الخطايا :

الأول: أن المسيح لم يقل للمفلوج: ثق يا بني لقد غفرتُ لك خطاياك! بل أنبأه قائلا: مغفورة لك خطاياك. و الفرق واضح بين الجملتين، فالجملة الثانية لا تفيد أكثر من إعلام المفلوج بأن الله تعالى قد غفر ذنوبه، و ليس في هذا الإعلام أي دليل على ألوهية المسيح، لأن الأنبياء و الرسل المؤيدين بالوحي و المتصلين بجبريل الأمين، يطلعون، بإطلاع الله تعالى لهم، على كثير من المغيبات و الشؤون الأخروية و منها العاقبة الأخروية لبعض الناس، كما أخبر نبينا محمد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن بعض صحابته فبشرهم أنهم من أهل الجنة و عن آخرين فبشرهم أنهم من أهل النار.

ثانيا: قد يشكل على ما قلناه قول المسيح فيما بعد: و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا علىالأرض أن يغفر الخطايا، فنسب غفران الخطايا لنفسه.
قلنا: آخر النص يجعلنا نحمل هذه النسبة على النسبة المجازية، أي على معنى أن ابن الإنسان (المسيح) خوله الله أن يعلن غفران خطايا، و ذلك لأن الجملة الأخيرة في النص السابق تقول: " فلما رأى الجموع ذلك تعجبوا و مجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا "، فالغافر بالأصل و الأساس هو الله تعالى، ثم هو الذي منح هذا الحق للمسيح و أقدره عليه، لأن المسيح فنى في الله تعالى و كان على أعلى مقام من الصلة بالله و الكشف الروحي و لا يتحرك إلا ضمن حكمه و إرادته فلا يبشر بالغفران إلا من استحق ذلك.

و مما يؤكد أن غفران المسيح للذنوب هو تخويل إجمالي من الله تعالى له بذلك، و ليس بقدرة ذاتيه له عليه السلام ، هو أن المسيح، في بعض الحالات، كان يطلب المغفرة للبعض من الله تعالى فقد جاء في إنجيل لوقا (23 / 34):

" فقال يسوع: يا أبتاه! اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ".

فانظر كيف طلب من الله غفران ذنبهم و لو كان إلـها يغفر الذنوب بذاته و مستقلا، كما ادعوا، لغفر ذنوبهم بنفسه.

فهذا السلطان بغفران الخطايا الذي أعطاه الله تعالى للمسيح، شبيه بذلك السلطان الذي منحه المسيح أيضا لحوارييه الخلص بعد ظهوره لهم من جديد، بعد صلبه (الذي شُـبِّـهَ لهم به)، حين قال:

" فقال لهم يسوع أيضا: سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. و لمّا قال هذا نفخ و قال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. من أمسكتم خطاياه أمسكت " يوحنا: 20 / 21 ـ 23.

و شبيه بذلك السلطان الذي منحه لبطرس رئيس الحواريين حين قال له:

" طوبى لك يا سمعان بن يونى، إن لحما و دما لم يعلنا لك. لكن أبي الذي في السموات. و أنا أقول أيضا: أنت بطرس و على هذه الصخرة أبني كنيستي و أبواب الجحيم لن تقوى عليها. و أعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، و كل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات " متى: 11 / 17 ـ 18.

فكما أن هذا السلطان بغفران الخطايا الذي ناله بطرس خاصة و الحواريون عامة، بإذن الله، عبر المسيح، لا يفيد ألوهيتهم؛ فكذلك امتلاك المسيح لذلك السلطان، بإذن الله، لا يفيد ألوهيته.

هذا و من الجدير بالذكر أن الكنيسة الكاثوليكية قد توسعت لحد بعيد في إعطاء هذا الحق بغفران الخطايا من بطرس لخلفائه الباباوات و حتى لمن يرسمونهم من الأساقفة، و منه نشأ تقليد الاعتراف للقسيس و غفران الأخير لذنوب المعترف! بل وصل الأمر في عصر من العصور لبيع صكوك الغفران و بيع قطع الأرض في الجنة جاهزةً لمن يتبرع للكنيسة، و من المفيد أن ننقل هنا نصا لأحد صكوك الفغران، كما جاء في كتاب " سوسنة سليمان في أصول العقائد و الأديان " لمؤلفه (النصراني) نوفل أفندي نوفل، حيث ذكر ترجمة لأحد صكوك الغفران التي كانت تباع في مدينة ويتمبرغ الألمانية (التي كان مارتن لوثر يدرس فيها) عام 1513 م. و نص الصك كما يلي:

" ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان و يُحِلُّكَ باستحقاقات آلامه الكلية القداسة و أنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحـلك من جميع القصاصات و الأحكام و الطائلات الكنسية التي استوجبتها و أيضا من جميع الافراط و الخطايا و الذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة و فظيعة و من كل علة و لئن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا و الكرسي الرسولي، و أمحو جميع العجز و كل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، و أردك حديثا إلى الشركة في أسرار الكنيسة و أقرنك في شركة القديسين، و أردك ثانية إلى الطهارة و البر اللذين كانا لك عند معموديتك حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذابات و العقاب و يفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، إن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة... باسم الآب و الابن و الروح القدس الواحد، آميــن. " [23]

و بناء على ما ذكر نقول: أنه لو كان امتلاك حق غفران الخطايا يدل على ألوهية مالك هذا الحق للزم منه أن يعتبر الحواريون و القديس بطرس الرسول و بولس و كل آباء الكنيسة و اساقفتها المخولون ذلك الحق آلهة أيضا!! و هذا ما لا يقول به أحد.

و إذا بطل اللازم، بطل الملزوم، فبطل الاستدلال بسلطان المسيح على غفران الخطايا، على ألوهيته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق