الأحد، 6 ديسمبر 2015

الشبهة الرابعة(وصف بولس للمسيح بأنه " صورة الله ".)



الشبهة الرابعة(وصف بولس للمسيح بأنه " صورة الله ".)

الرد على هذه الشبهة :

قبل تفنيد هذه الشبهة، يجدر بنا أن نذكر الفقرات التي جاء تعبير بولس هذا ضمنها. فالأول جاء في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس (4 / 3 ـ 4) كما يلي :

" فإذا كانت بشارتنا محجوبة، فهي محجوبة عن السائرين في طريق الهلاك. (محجوبة ) عن غير المؤمنين، الذين أعمى أبصارهم إلـه هذه الدنيا لئلا يبصروا نور بشارة مجد المسيح و هو صورة الله ".

و الموضع الثاني جاء في رسالته إلى أهل فيليبي (2 / 5 ـ 8 ) :

" فليكن فيما بينكم الشعور الذي هو أيضا في المسيح يسوع، فمع أنه في صورة الله لم يعد مساواته لله غنيمة بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد و صار مثال البشر و ظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه و أطاع حتى الموت موت الصليب " [11].

و الآن نقول: إن وصف بولس للمسيح بأنه " صورة الله "، ليس فيه أي تأليه للمسيح، لأن هذه الصفة تكررت بعينها مرات عديدة في الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد، و وصف بها الإنسان، بشكل عام و الرجل بشكل عام أيضا، و يفهم من تتبع موارد استعمالها في الكتاب المقدس أنها تعني نوع من التشابه العام أو العلاقة و الترابط بين الإنسان ككل و الله .

فقد جاء في سفر التكوين من التوراة الحالية: " و قال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا و ليتسلط على أسماك البحر و طيور السماء و البهائم و جميع وحوش الأرض و جميع الحيوانات التي تدب على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكرا و أنثى... " تكوين: 1 / 26 ـ 27.

يقول مفسرو التوراة أن المقصود بكون الإنسان خلق على صورة الله هو ما يتميز به الإنسان عن الجمادات و النباتات و الحيوانات بالعقل الكامل و القدرة على النطق و التعبير عما يريد و بالإرادة و الاختيار الحر و بالاستطاعة و القدرة، فضلا عن السمع و البصر و الحياة و الإدراك و العلم... الخ، أي أن هناك تشابه عام بين صورة الله في صفاته و الإنسان، لذا قال سبحانه أنه خلق الإنسان على صورته [12] ، و بتعبير آخر أن الله شاء أن يخلق مخلوقا تنعكس و تتجلى فيه ومضة من صفاته تعالى من العقل و الإرادة و الاختيار و الحياة و العلم و المعرفة و الكلام و القدرة و السمع و البصر... الخ.

و لما كانت صفات الكمال، من قوة و قدرة و عقل و حكمة، موجودة في الرجل أكثر من المرأة، لذا نجد بولس يعبر عن الرجل ـ كل رجل ـ بأنه " صورة الله " فيقول مثلا في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس (11 / 7 ):

" و أما الرجل فما عليه أن يغطي رأسه لأنه صورة الله و مجده "

و طبعا كلما ترقى الإنسان في الكمالات و تخلق أكثر بأخلاق الله، كلما صار أكثر عكسا لصفات الله، و كلما تجلت فيه أسماء الله و صفاته الحسنى كالعلم و القدرة و العزة و العدل و الحلم و الكرم و الرحمة و الرأفة و الصبر و القداسة.... أكثر، لذا نجد بولس يتكلم عن نفسه و عن سائر الأولياء و القديسين فيقول:

" و نحن جميعا نعكس صورة مجد الرب بوجوه " مكشوفة " كما في مرآة، فتتحول إلى تلك الصورة و نزداد مجدا على مجد و هذا من فضل الرب الذي هو روح " قورنتس: 3 / 18.

كما يقول في موضع آخر موصيا المؤمنين بالتخلُّق بأخلاق الله و العيش حياة مسيحية كاملة:

" أما الآن فألقوا عنكم أنتم أيضا كل ما فيه غضب و سخط و خبث و شتيمة. لا تنطقوا بقبيح الكلام و لا يكذب بعضكم بعضا، فقد خلعتم الإنسان القديم و خلعتم معه أعماله، و لبستم الإنسان الجديد ذاك الذي يجدد على صورة خالقه ليصل إلى المعرفة " رسالة بولس إلى أهل قولسي: 3 / 8 ـ 10. فإذا كانت صفة " صورة الله" تقتضي الألوهية، فبمقتضى كلام بولس نفسه ينبغي أن يكون جميع القديسين بل جميع الرجال آلهة! و هذا ما لا يتفوه به عاقل و لا يشك في بطلانه أحد.

و لا شك أن الأنبياء هم المظهر الأتم و الأكمل لأسماء الله الحسنى و صفات جلاله و جماله، فمن هذا المنطلق يعبر بولس عن المسيح بعبارة " صورة الله ".

أما قول بولس عن المسيح، في الشاهد الثاني: " فمع أنه في صورة الله، لم يعد مساواته لله غنيمة، بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد و صار على مثال البشر و ظهر في هيئة إنسان... الخ "، فقد يظن البعض أن فيه تصريحاً بألوهيته لأنه صرح بمساواته لله، و بأنه تجسّد و أخذ صورة العبد و لبس لباس البشر، فصرح بالتجسّد.

فنقول: إن قوله " مساواته لله " ليست إلا تعبيرا آخر عن عبارته " أنه في صورة الله " و التي عرفنا أن المقصود منها أنه لما كان الإنســان الكـامـل مجـلى و صورة تنعكس فيها صفات الحق جـلَّ و علا من عقل كامل و علم و إرادة و اختيار و قدرة و عدل و حكمة، و طهر و قداسة، و حب و رحمة و رأفة..... الخ، لذا عبر عنه بأنه صورة الله، و مماثل لله، فيقول بولس أن المسيح لم يستغل هذا التناظر و التساوي (الصفاتي الصوري) مع الله، لكي يفتخر و يتكبر و لا يخضع لله و يرى أنه صار على مستوى الله، كلا و حاشا، و لعله في هذا يلمِّح إلى آدم الذي ـ حسبما تنقل التوراة التي تشكل خلفية فكر بولس باعتباره كان من أحبار اليهود ـ حاول أن يستغل قدرته و إرادته الحرة للأكل من الشجرة المحرمة ليكون مساويا لله في علمه و أبديته، حيث أن الشجرة ـ حسب نقل تلك التوراة ـ كانت شجرة معرفة الخير و الشر و شجرة الخلد و الملك الذي لا يبلى و لا يفنى، أما المسيح فعلى العكس اختار التواضع و الطاعة لمشيئة أبيه و وضع نفسه و استسلم للموت ـ على حد قول بولس ـ .
و أما قوله عن المسيح أنه صار على مثال البشر و ظهر بهيئة إنسان، فيعود لفكرة بولس عن المسيح التي سبق و شرحناها، و هي أنه يرى في المسيح أول (أو بتعبيره: بكر ) خليقة الله، فكان كائنا روحيا قبل خلق العالم و به و فيه خلق الله سائر الأشياء، فليس في تجسده أي إشارة للألوهية أو دلالة عليها.
و لا يختلف تجسده عن تجسد جبريل الأمين لما ظهر لمريم أو تجسد الملائكة الثلاثة الذين زاروا إبراهيم عليه السلام، إذ من البديهي أن التجسد بحد ذاته لا يعني أكثر من ظهور كائن روحي بمظهر جسدي إنساني أما أن هذا الكائن الروحي كان قبل تجسده إلـها أو غير إلـه، فهذا يحتاج لدليل آخر.
هذا أولا، و ثانيا: إذا نظرنا إلى تتمة كلام بولس، ظهر لنا بكل وضوح انتفاء قصد إلـهية المسيح و استحالة كون المسيح هو الله في نظر بولس، حيث قال: " فوضع نفسه و أطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله إلى العلى و وهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء..." فيليبي: 2 / 8 ـ 9.
فعبارات أنه مات ثم رفعه الله إلى العلا و وهب له الاسم... تصيح بأعلى صوتها أن المسيح ليس الله بل عبد لله، محتاج له، و ليس بإلـه، لأن الإلـه لا يموت و لا يحتاج لمن يرفعه للعلا، و لا لمن يهبه أي شيء !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق