الأحد، 6 ديسمبر 2015

الشبهة الخامسة (" الذي رآني فقد رأى الآب ")



الشبهة الخامسة (" الذي رآني فقد رأى الآب ")
قول المسيح عليه السلام : " الذي رآني فقد رأى الآب " يوحنا:14 / 9.


مناقشة هذه الشبهة :

لفهم هذه العبارة لا بد أن نلاحظ تمام الكلام الذي جاءت في وسطه. لقد جاءت هذه العبارة ضمن حوار، رواه يوحنا في إنجيله (14/1 ـ 10)، جرى بين المسيح عليه السلام و تلاميذه الإثني عشر، في العشاء الأخير، و فيه يقول المسيح:

" لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة. و إلا فإني كنت قد قلت لكم. أنا أمضي لأعد لكم مكانا. و إن مضيت و أعددت لكم مكانا آتي أيضا و آخذكم إلى حيث أنا تكونون أنتم أيضا. و تعلمون حيث أنا أذهب و تعلمون الطريق. قال له توما: يا سيد لسنا نعلم أين تذهب كيف نقدر أن نعرف الطريق ؟ قال له يسوع: أنا هو الطريق و الحق و الحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضا. و من الآن تعرفونه و قد رأيتموه. قال له فيليبس: يا سيد أرنا الآب و كفانا. قال له يسوع: أنا معكم زمانا هذه مدته و لم تعرفني يا فيليبس. الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب ؟ ألست تؤمن أني أنا في الآب و الآب فـيَّ؟ الكلام الذي أكلمكم به ليس أتكلم به من نفسي لكن الآب الحالَّ فيَّ هو يعمل الأعمال "

و الآن نقول: إن الاستدلال بقول المسيح “ من رآني فقد رأى الآب “ على ألوهيته، استدلال في غاية الضعف، لأن المجاز في هذا التعبير، خاصة لمن يلاحظ السياق الذي جاء به، أوضح من أن يُسْتدل عليه.
فأولاً: لا يمكن أن يكون المعنى الحرفي مرادا، حتى عند جمهور النصارى، لأنه لا أحد منهم يعتقد أن ذلك الـمُشَاهَد، أي جسم عيسى المادي، هو الله تعالى أي الآب الذي في السموات نفسه! لأن الآب تعالى ليس بجسم و لا يُحَدُّ و لا يُرى، باتفاق جميع النصارى، لذلك يؤولون الرؤية هنا بالمعرفة و يقولون أن المعنى أن من عرفني و عرف حقيقتي اللاهوتية فقد عرف الآب، لكن سبق و بينا أنه من المحال أن يكون الشخص الواحد بعينه إلـها و بشرا بنفس الوقت، فهذا التأويل باطل.

إذن هم متفقون معنا على أن مثل هذا التعبير لا يراد به معناه الظاهري الحرفي أي تطابق المفعول به الأول للرؤية مع المفعول به الثاني لها، تطابقا حقيقيا تاما بكونهما شيئا واحدا، بل يراد به معنى مجازي، فلا بد من المصير إلى مجاز منطقي يقبله العقل و تساعد عليه النصوص الإنجيلية المماثلة الأخرى.

مثلاً في إنجيل لوقا (10/16) يقول المسيح عليه السلام لتلاميذه السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد للتبشير :

" الذي يسمع منكم يسمعني و الذي يرذلكم يرذلني و الذي يرذلني يرذل الذي أرسلني "

و لا يوجد حتى أحمق فضلا عن عاقل يستدل بقوله عليه السلام : " من يسمعكم يسمعني "، على أن المسيح حالٌّ بالتلاميذ أو أنهم المسيح ذاته !


و كذلك جاء في إنجيل متى (10/40) أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه:

" من يقبلكم يقبلني و من يقبلني يقبل الذي أرسلني ".

و مثله ما جاء في إنجيل لوقا (9/48) من قول المسيح عليه السلام في حق الولد الصغير:

"من قبل هذا الولد الصغير باسمي يقبلني و من قبلني يقبل الذي أرسلني"

و وجه هذا المجاز واضح و هو أن شخصا ما إذا أرسل رسولا أو مبعوثا أو ممثلا عن نفسه فكل ما يُـعَامَلُ به هذا الرسول يعتبر في الحقيقة معاملة للشخص المرسِـل أيضا.

فالآن نعود لعبارتنا وللنص الذي جاءت فيه، فنرى أن الكلام كان عن المكان الذي سيذهب إليه المسيح و أنه ذاهب إلى ربه، ثم سؤال توما عن الطريق إلى الله، فأجابه المسيح أنه هو الطريق، أي أن حياته و أفعاله و أقواله و تعاليمه هي طريق السير و الوصول إلى الله، ثم يطلب فيليبس من المسيح أن يريه الله، فيقول له متعجبا: كل هذه المدة أنا معكم و ما زلت تريد رؤية الله، و معلوم أن الله تعالى ليس جسما حتى يرى، فمن رأى المسيح و معجزاته و أخلاقه و تعاليمه التي تجلى فيها الله تبارك و تعالى أعظم تجل، فكأنه رأى الله، ثم شرح المسيح ذلك ـ و هنا بيت القصيد ـ فقال: " إن الكلام الذي أقوله لكم لا أقوله من عندي بل الآب الحال في يعمل أعماله صدقوني أني في الآب و الآب فيَّ "، و هنا نعيد للأذهان إجابتنا عن الشبهة السابقة و أن حلول الله في الشخص و العكس المقصود منه، بلغة الإنجيل، تـو لِّـي الله لهذا الشخص و نشوء التوافق الكامل بينه و بين الله في الإرادة و الهدف و القصد و المشيئة و المحبة أو بتعبير الصوفية المحو عن النفس و الفناء في الله.

و حاصل الكلام أن المسيح لما كان رسولَ الله و كلمتَه و روحا منه و كان لا يتكلم إلا بأمره و وحيه و كانت أعماله و معجزاته و تعاليمه كلها من عند الله و بأمر الله و برضا الله و فيها تجلى الله و عرف مراده و تجلت صفاته، كان ممثلا عن الله، و بالتالي حسن التجوز بالتعبير من أن من رآه فقد رأى الله.


و نحو هذا المجاز كثير في العهد القديم كذلك، فعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى على لسان النبي إرميا:

" أكلني ابتلعني بختنصر ملك بابل، جعلني كإناء فارغ، بلعني كتنين، ملأ بطنه من رخصتي و طردني " سفر إرميا: 51 / 34.

و جاء نحو هذا المجاز أيضا، في القرآن الكريم، كثيراً كقوله تعالى: " و ما رميت إذا رميت و لكن الله رمى " الأنفال/ 17. أو قوله سبحانه: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " الفتح / 10، أو قوله تعالى : " من يطع الرسول فقد أطاع الله " النساء / 80.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق