الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

الردعلى النصارى في ادعاء بنوة المسيح وألوهيته(2) .




الردعلى النصارى في ادعاء بنوة المسيح وألوهيته(2) .

الوجه الخامس
: إن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه، فإنهم يقولون: هو إله واحد، وهو الخالق، فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه؟!

الوجه السادس:
إن الخالق إما أن يكون الذات الموصولة بالكلام، أو الكلام الذي هو صفة للذات، فإن كان هو الكلام، فالكلام صفة لا تكون ذاتًا قائمة بنفسها خالقة، ولو لم تتحد بالناسوت، واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنًا، فكيف وهو ممتنع؟!

وإذا كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين، وعندهم هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، فلا يكون هو الخالق لكل شيء، والقرآن يبيِّن أن الله هو الذي أذِن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله، ولا صفة من صفاته، فليس المسيح هو الله، ولا ابن قديم أزلي لله، ولكن عبده فعل بإذنه.

الوجه السابع :
قولهم: فأشار بالخالق على كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم؛ لأنه كذا قال على لسان داود النبي: (بكلمة الله خلقت السموات والأرض)، فيقال لهم: هذا النص عن داود حجة عليكم، كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم، فإن داود - عليه السلام - قال: (بكلمة الله خلقت السموات والأرض) ولم يقل: إن كلمة الله هي الخالقة، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله.

والفرق بين الخالق للسموات والأرض، وبين الكلمة التي بها خلق السموات والأرض - أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القادر والقدرة، فإن القادر هو الخالق، وقد خلق الأشياء بقدرته، وليست القدرة هي الخالقة، فالله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه، وليس صفاته هي الخالقة.

الوجه الثامن :
إن قول داود - عليه السلام -: (بكلمة الله خلقت السموات والأرض)، يوافق ما جاء في القرآن والتوراة، وغير ذلك من كتب الأنبياء، إن الله يقول للشيء كن فيكون، وهذا في القرآن في غير موضع وفي التوراة قال الله: (ليكن كذا ليكن كذا).

الوجه التاسع
: قولهم: (لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه).

إن أرادوا بكلمته كلامه، وبروحه حياته، فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنه روح الله، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح، أنه يراد به حياة الله، فقد كذب عليه، ثم يقال: هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته، وحينئذ فالخالق هو الله وحده وصفاته داخلة في مسمى اسمه، لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في خلقه، فإن الله لا شريك له؛ ولهذا لما قال تعالى الله خالق كل شيء، دخل كل ما سواه في مخلوقاته، ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته، ومشيئته وكلامه؛ لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له..، وإن أرادوا بكلمة روحه المسيح، أو شيئًا اتحد بناسوت المسيح، فالمسيح - عليه السلام - كله مخلوق كسائر الرسل والله وحده هو الخالق.

الوجه العاشر:
إن داود - عليه السلام - لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح؛ لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت، وهو عند النصارى اسم اللاهوت والناسوت لما اتحدا، والاتحاد فعل حادث عندهم، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحًا، فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح، ولكن غاية النصارى أن يقولوا: أراد الكلمة التي اتحدت فيها - أي: مريم - بجسد المسيح، لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح؛ كما نطق به القرآن بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران: 45].

فالكلمة التي ذكرها، وإنها هي التي بها خلقت السموات والأرض، ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير - بإذن الله.

فاحتجاجهم بهذا؛ أي:
 بأن المسيح - باعتباره كلمة الله - خلق الأشياء على الكلمة الخالقة بإذنه، هذا احتجاج باطل، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السموات والأرض، لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم والمسيح، لا بد أن يدخل فيه الناسوت، فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح؛ انظر: الجواب الصحيح (2 /287 293).

3- ويستشهد النصارى أيضًا على صحة بنوة المسيح لله وألويته بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران: 59].
فقالوا: قد عنى بقوله: مثل عيسى؛ إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة؛ لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط.
وكما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة، فكذلك جسد المسيح خلق من غير جماع، ولا مباضعة، وكما أن جسد آدم ذاق الموت، فكذلك جسد المسيح ذاق الموت.
وقالوا كذلك: وقد يبرهن على عقيدتنا أيضًا بما ذكره القرآن عن المسيح، من أن الله ألقى كلمته إلى مريم، وذلك حسب قولنا: إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلَّت في مريم، وتجسدت بإنسان كامل؛ انظر: الجواب الصحيح (2 / 294).

وقد أجاب ابن تيمية - رحمه الله - عن ذلك بما يأتي:
أولاً: إن قوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59].

كلام حق فإنه - سبحانه - خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة؛ ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضِلَع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء، فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان - سبحانه - قادرًا أن يخلقه من تراب، والتراب ليس جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟

وهو - سبحانه - خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن فكان، لَما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه، وقال له: كن فكان، ولم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتًا وناسوتًا، بل كله ناسوت، وكذلك المسيح كله ناسوت.

وهذا كله يبيِّن به إن المسيح عبد ليس بإله، وأنه مخلوق كما خلق آدم، وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يباهل من قال: إنه إله، فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه المخلص به، ثم يبتهل هؤلاء وهؤلاء، يدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين، فإن كان النصارى كاذبين في قولهم: هو الله - حقت اللعنة عليهم، وإن كان من قال ليس هو الله، بل عبد الله كاذبًا، حقَّت اللعنة عليه، وهذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق.

والنصارى لما لم يعلموا أنهم على حق، نكلوا عن المباهلة، وقد قال تعالى عقب ذلك: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 62]؛
تكذيبًا للنصارى الذين يقولون: هو إله حق من إله حق، فكيف يقال: إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت، وأن الناسوت فقد دون اللاهوت؟

وبهذا ظهر الجواب عن قولهم: أعني بقوله: عيسى إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة؛ لأنه لم يذكر الناسوت ها هنا اسمًا للمسيح، إنما ذكر عيسى فقط.

فإنه يقال لهم: عيسى هو المسيح بدليل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ... [النساء: 171]، وقوله تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... [المائدة: 75].

فأخبر أن المسيح ليس هو ابن الله، وإنما هو ابن مريم، والذي هو ابن من مريم هو الناسوت، وأنه ليس إلا رسول.

ثانيًا: قولهم: (وقد يبرهن أيضًا؛ أي: عقيدتهم في المسيح، من أنه إله وابن إله، بما ذكره القرآن عن المسيح من أن الله ألقى كلمته الخالقة إلى مريم، وذلك حسب قولنا - نحن معشر النصارى -: إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلَّت في مريم، واتَّحدت بإنسان كامل)؛ نقلاً عن الجواب الصحيح؛ لابن تيمية (2/294).

فيقال لهم: أما قول الله في القرآن، فهو حق، ولكن ضللتم في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء، وما بلَّغوه عن الله، وذلك أن الله تعالى قال: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 45، 47].

ففي هذا الكلام وجوه تُبيِّن أنه مخلوق، ليس هو ما يقوله النصارى، منها: أنه قال (بكلمة منه) وقوله: (بكلمة منه) نكرة في الإثبات، يقتضي أنه كلمة من كلمات الله، ليس هو كلامه كله كما يقوله النصارى.

ومنها: أنه بيَّن مراده بقوله: (بكلمة منه) أنه مخلوق؛ حيث قال: ﴿ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47].

وقال في الآية الأخرى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59]، وقال تعالى أيضًا: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم: 34، 35].

فهذه ثلاث آيات في القرآن تبيِّن أنه قال له: (كن)، فكان، وهذا تفسير كونه (كلمة منه).

وقال: ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران: 45]، فأخبر أنه ابن مريم، وأخبر أنه وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين، وهذه كلها صفة مخلوق والله - تعالى - وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك.

وقال تعالى على لسان مريم: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران: 47]، فتبيَّن أن المسيح الذي هو الكلمة، هو ولد مريم لا ولد الله - سبحانه وتعالى.

فمع هذا البيان الواضح الجلي، هل يظن ظان أن مراده بقوله: (و كلمته) أنه إله خالق، أو أنه صفة لله قائمة به، وأن قوله: (وروح منه) المراد به: أنه حياته، أو روح منفصلة من ذاته؟!؛ انظر الجواب الصحيح (2 / 299- 301) بتلخيص.

ولنا في هذا المقام كلمة:
بعد ردود ابن تيمية - رحمه الله - على النصارى فيما يستشهدون به على عقيدتهم من آيات القرآن، فإذا كانوا يستشهدون بآيات القرآن على أنها من كلام الله، أو من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ليأخذوا جملة العقيدة التي أوحى بها الله، أو العقيدة التي يعتقدها محمد - صلى الله عليه وسلم - ليأخذوا ذلك من جميع نصوص القرآن الواردة في الموضوع، فلا يقتصرون على جملة هنا أو جملة هناك، فالتعبيرات القرآنية عن المسيح بأنه كلمة الله أو روح من الله، لا بد وأن تُفهَم على ضوء الآيات الأخرى التي تنفي ألوهية المسيح وبنوته، وتكفر من يقول بهما، والتي تثبت براءة المسيح ممن يؤلهه أو يُؤله أمه، والتي تثبت كذلك اعترافه ببشريته.

على ضوء ذلك كله، لا بد وأن تفسر الآيات التي وصفت المسيح بأنه كلمة الله وروح منه، وإلا فهو إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر، كما هو ديدنهم، وسواء اعتبر النصارى القرآن كلام الله أو كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا بد من أن يأخذوا العقيدة القرآنية في المسيح من كل ما جاء في حقه من آيات، وهذا هو ما فعله شيخ الإسلام؛ حيث جمع في مناقشتهم بين ما يستشهدون به من آيات القرآن، وما غضوا الطرف عنه من الآيات الأخرى، وبذلك يكون التصور الكامل للعقيدة القرآنية في المسيح، وفي نفس الوقت يظهر بطلان استشهادهم على عقيدتهم الزائفة بآيات القرآن من جهة، وبطلان عقيدتهم نفسها من جهة أخرى.

شُبَه أخرى:
يحتج النصارى على اختصاص المسيح بالبنوة والألوهية دون سائر الأنبياء والرسل، بأنه كلمة الله الأزلية التي انفصلت عنه واتَّحدت بالمسيح من دون سائر البشر، فكان ابنًا بالطبع، وليس ابنًا بالوضع.
الجواب
: إنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر؛ لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، بخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، وخلقوا من ماء الأبوين (الأب والأم)، والمسيح - عليه السلام - لم يخلق من ماء رجل، بل ما نفخ روح القدس في أمه، فحبلت به، وقال الله له: (كن)، فكان، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59]، فإن آدم - عليه السلام - خُلِق من تراب وماء، فصار طينًا، ثم أيبس الطين، ثم قال له: (كن)، فكان بشرًا تامًّا بنفخ الروح فيه، ولكن لم يسم كلمة الله؛ لأن جسده خلق من التراب والماء، وبقي مدة طويلة يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيًّا في وقت واحد، بل خلق شيئًا فشيئًا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة، وأما المسيح - عليه السلام - فخلق جسده خلقًا إبداعيًّا بنفس نفخ روح القدس في أمه، قيل له: (كن)، فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر؛ انظر الجواب الصحيح (2/166).

يقول ابن تيمية: إن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، وقالوا: (إنه إله تام وإنسان تام)، وليس فيه من الإلهية شيء فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه.
فلو قال القائل: إن موسى بن عمران كان هو الله، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى، فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر، وقد سماه الله في التوراة إلهًا لهارون ولفرعون؛ انظر: سفر الخروج (4: 16، 7: 1)، والجواب الصحيح (3/174).

ثم يقول: والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح، قد وجدت لغير المسيح، ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك، فلا ريب أن المسيح - عليه السلام - أفضل من جمهور الأنبياء، أفضل من داود وسليمان وأصحاب النبوات الموجودة عندكم، وأفضل من الحواريين، لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة؛ كفضيلة إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وذلك لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل؛ كما قال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 75]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72].

وجماع هذا القول: إن سائر ما يوصف به المسيح عندهم، ويدَّعون اختصاصه به من كونه ابنًا لله، وكونه مسيحًا، وكون الله حلَّ فيه، أو ظهر أو سكن، أو أظهر المعجزات على يديه - كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح، فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ في كلام الأنبياء، توجب أن يكون هو الله أو ابن الله، بل قد عرف باتفاقهم واتفاق المسلمين أن المراد بتلك الألفاظ حلول الإيمان بالله ومعرفته، وهداه ونوره ومثاله العلي في قلوب عباده الصالحين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق