الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

الرد على النصارى في ادعاء بنوة المسيح وألوهيته(1)



الرد على النصارى في ادعاء بنوة المسيح وألوهيته(1)

الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله.
ثم أمَّا بعدُ:
إن ما أوردته أناجيل النصارى المحرفة على لسان المسيح - عليه السلام - من كونه ابن الله، وأن الله حلَّ فيه، أو كون الله هو المسيح إلى غيرها من التُّهم والخُزعبلات، أقول: إن تلك العقائد هي مما ألصق بالسيد المسيح - عليه السلام - وهو منه بريء لمنافاته لعقيدة التوحيد التي جاء بها كغيره من الرسل؛ إذ يستحيل أن يصف المسيح نفسه بأوصاف الله - عز وجل - من الأزلية والأبدية، والعلم المطلق بكل شيء والوجود في كل مكان..، إلى غير ذلك من الصفات والأفعال الخاصة بالله - عز وجل.

ولو فرض جدلاً أن شيئًا من هذه الأقوال قد جاء على لسان المسيح - عليه السلام - مما يتضمن وصفه لنفسه بالبنوة والألوهية، فإن بالضرورة ليس بالمعنى الذي يقصده المسيحيون من هذه الألفاظ، فإن هذه الألفاظ قد وردت في الأسفار الكتابية بمعان أخرى، ذكرها ابن تيمية في معرض رده على المسيحيين الذين يحتجون على قولهم ببنوة المسيح لله - تعالى - وألوهيته بما ورد في أناجيلهم من النصل على ذلك.

وكذلك فعل غيره من العلماء في إبطالهم لاستشهادات النصارى على عقيدتهم الباطلة هذه من الكتاب المقدس.

لو فرض ذلك لا بد وأن يؤول لفظ البنوة والألوهية في حق المسيح بما لا يتنافى مع العقيدة الصحيحة في الله والمسيح؛ ككونه دالاًّ على تكريمه وقربه من الله، أو دالاًّ على رئاسته الدينية وشرفه، وكونه متكلمًا باسمه، حاكمًا بحكمه، عاملاً بوصاياه.. إلخ، لا سيما إذا علمنا أن أسفار العهد القديم كانت تطلق لفظ البنوة على إسرائيل وعلى داود وغيرهما، كما كانت تطلق لفظ الألوهية على موسى - عليه السلام - وعلى غيره من قضاة بني إسرائيل بهده المعاني، بذكر التأويلات الصحيحة لما ورد في الأناجيل من ألفاظ الأبوة والبنوة والألوهية.. إلخ، ليست إذًا بنوة المسيح وألوهيته، حتى لو فرضت صحة هذه النصوص بنوة وألوهية حقيقية، بل مجازية يجب أن تؤول نصوصها بما لا يتضمن فسادًا في العقيدة، ولا مخالفة للتوحيد، ولتتفق مع النصوص المحكمة في العقيدة.

زِدْ على ذلك على فرض صحة نقله لا بد وأن يفهم على ضوء بقية ما تضمنه الكتاب المقدس من خصائص البشرية للمسيح - عليه السلام.

أما ما أسند إلى المسيح من أفعال الله - عز وجل - فهو نوع من التحريف الذي ألحقه المسيحيون بعقيدتهم التوحيدية الصحيحة، وما داموا قد انحرفوا وألَّهوا المسيح، فمن الطبيعي أن يضيفوا إليه أفعال الألوهية، وإذا كان تأليههم المسيح اعتقادًا باطلاً، فإن إضافتهم إليه أعمال الألوهية يعد أمرًا باطلاً هو الآخر، فإن مقتضى استحالة الألوهية في حق المسيح هو استحالة أفعالها في حقه كذلك.

والذي يتمعَّن فيما يستدلون به هنا من نصوص، يجد أنها لا تتضمن في الحقيقة وصف المسيح لنفسه بالأزلية كما يزعمون، بل أقصى ما فيها تقدير الله لنبوَّته، وتمجيده له في قدره السابق، قبل أن يخلق الخلائق، وهذا أمر وارد في حق كل نبي من الأنبياء.

أما المعجزات - كمعجزة إحياء الموتى - فلم يفعلها المسيح باعتباره إلهًا قادرًا على كل شيء، وإنما فعلها بالقدرة التي منحها الله له، وبعد أن تضرَّع إلى الله الذي أرسله طالبًا تأييده، وليس في هذا ما يدل على ألوهيته، ولكنه يدل على نبوته، وتأييد الله له بهذه المعجزات.

أما ما يزعمونه من جلوس المسيح على يمين الرب لدينونة الخلائق، فذلك أمر باطل، دفعهم إليه غلوهم في حق المسيح، فالله هو مالك يوم الدين، وهو المتفرد بحساب الخلائق في ذلك اليوم، ولو فرض أن تعميد الناس إنما يكون باسمه مع اسم الله وروح القدس مما تضمنه إنجيل متى، فهذا ليس على سبيل المشاركة في الألوهية، وإنما على سبيل البركة باعتباره نبي الله.

وبديهي أن عيسى - عليه السلام - لا يمكن أن يرد على لسانه إقراره لـ(توما) في وصفه له بالألوهية، وهو النبي الداعي إلى التوحيد، وسوف يجيب ربه يوم القيامة إذا سأله عن تأليه الناس له قائلاً: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117].

وغاية القول: إن ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح - عليه السلام - إما أن تكون شواهد مكذوبة النسبة إلى المسيح - عليه السلام - أو محرفة في نقلها وترجمتها، أو تكون متضمنة لألفاظ مؤولة لا ينبغي فَهمها إلا في ضوء استعمال الكتب المقدسة لها، وعلى ضوء بقية النصوص الأخرى التي تتضمن النص على بشرية المسيح - عليه السلام - وغيره من الأنبياء.

وسوف يتضح بجلاء بطلان ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح، بعد أن نعرض فيما يأتي إبطال ابن تيمية وغيره من العلماء لِما يستدل به النصارى من أدلة أخرى غير تلك التي أوردناها وأبطلناها في هذا المقام.

يذكر ابن تيمية أن عقيدة اليهود والنصارى في شأن المسيح - عليه السلام - على طرفي نقيض؛ فاليهود لم يعطوا المسيح حقه الذي منحه الله إياه، فزعموا أن ولد زنا، وأنه كذاب وساحر، ولم يؤمنوا به.

أما النصارى، فقد غالوا في تعظيمه لدرجة تأليهه، فقالوا عنه: إنه الله وابن الله، بل صار من يقول فيه القول الحق من علمائهم وعبادهم، يجمعون لهم مجمعًا ويلعنونهم فيه على وجه التعصب واتباع الهوى، والغلو فيمن يعظمونه؛ الجواب الصحيح (2/88).

ويبطل ابن تيمية عقيدة النصارى هذه في بنوة المسيح لله - تعالى - وألوهيته، وأدلتهم عليها من جهات متعددة.

فهو يبطلها بإبطال أدلتهم من الكتاب المقدس عندهم، وكذلك بإبطال استدلالهم عليها في زعمهم بالقرآن الكريم.

تفصيل ذلك: المقصود هنا كما يقول ابن تيمية: بيان بُطلان احتجاج النصارى على أن المسيح هو الله، أو ابن الله، أو أنه كلمة الله الخالقة، وأنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة، كما ليس لهم حجة في سائر كتب الله، وإنما تمسكوا بآيات متشابهات، وتركوا المحكم، كما أخبر الله - تعالى - عنهم بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7].

والآية - كما يقول ابن تيمية - نزَلت في النصارى، فهم مرادون من الآية قطعًا؛ الجواب الصحيح (2/304).

يقول ابن تيمية: ثم يقال للنصارى في هذا المقام: أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب، ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رُسل الله معصومون، ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله، فصار ذلك دورًا ممتنعًا.

- والدور هو: توقف الشيء على نفسه؛ أي: يكون هو نفسه علة لنفسه، بواسطة أو بدون واسطة، والدور مستحيل بالبداهة العقلية؛ انظر: ضوابط المعرفة؛ لعبدالرحمن الميداني (ص333).

- فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب، ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله، ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله، فصار ثبوت الإلهية متوقفًا على ثبوت إلهيته، وثبوت كونهم رسلَ الله متوقفًا على كونهم رسل الله، فصار ذلك دورًا ممتنعًا؛ الجواب الصحيح (1/357).

إبطال ابن تيمية لاستدلالات النصارى على بنوة المسيح وألوهيته بالتوراة ثم بالإنجيل.

أولاً: إبطال أدلتهم من التوراة:
يستشهد النصارى على عقيدتهم ببنوة المسيح لله - تعالى - وأبوة الله له، وبالتالي على ألوهية المسيح ببعض نصوص التوراة التي تتضمن هذه الألفاظ الدالة على تلك العقائد، فقد قالوا: نحن معشر النصارى لم نُسمِّ المسيح بهذه الأسماء من ذات أنفسنا، بل الله سماه بها، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبًا بني إسرائيل: أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؛ سفر التثنية (32: 6)؛ أي: إن اسم الأب أو كلمة الأب قد استعملت في التوراة بالنسبة لله - عز وجل - فلم يكونوا في نظر أنفسهم هم المبتدعين لتلك الكلمة في حق الله - عز وجل - ولا ما تستتبعه تلك الكلمة من النبوة بالنسبة للمسيح.

وقد أجاب ابن تيمية على ذلك بقوله: إن في هذا الكلام أنه سماه أبًا لغير المسيح - عليه السلام - وهذا نظير قوله لإسرائيل: أنت ابني بكري - سفر الخروج (4: 22 و23) - ولداود: ابني وحبيبي مزمور (89: 26. 27)، وقول المسيح: أبي وأبيكم يوحنا (20: 17).

وهم يسلِّمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب، لا بمعنى التولد الذي يخصون به المسيح.

ثم إن هذا الدليل الذي يستدلون به على بنوة المسيح لله - تعالى - وألوهيته هو حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبًا لغير المسيح، وليس المراد بذلك إلا معنى الرب - علِم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله في حق المسيح على هذا المعنى؛ لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام، وأن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح، إنما يثبت إذا علم أنه أريد به المعنى الذي ادعوه في المسيح، فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور، فإنه يعلم أنه أريد به ذلك المعنى؛ من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى، ولا يثبت ذلك؛ حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر، لم يعلم واحد منهما، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع.

ثم إنه لا يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب والمراد به أب اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت، ولا كلمته ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق، وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مُسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت، وهذا يبطل قولهم: إن الابن وروح القدس صفتان لله، وأن المسيح اسم اللاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى وتناقض أمانتهم؛ الجواب الصحيح (2 / 123).

ثانيًا: إبطال أدلتهم من الإنجيل:
يستشهد النصارى ببعض نصوص الأناجيل التي تتضمن ألفاظًا دالة على تلك العقائد، فقالوا: عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس؛ مَتَّى (28: 19).

وقد رد ابن تيمية على ذلك بقوله: هذا النص هو عمدتكم على ما تدَّعونه من الأقانيم الثلاثة، وليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصًّا ولا ظاهرًا، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه، ولا سموا كلامه ابنه، ولكن عندكم أنهم سموا عبده أو عباده، ابنه أو بنيه، وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله، وكلامه دعوى في غاية الكذب على المسيح، وهو حمل للفظ على مالم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة ولا مجازًا، فأي كذب وتحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا، ولو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله، لسُمِّيت حياته ابنًا، وقدرته ابنًا، فتخصيص العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثانٍ لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله، فكيف إذا لم يكن كذلك...، بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به في لغتهم الرب، والابن الذي يريدون به في لغتهم المربي، وهو هنا المسيح، والروح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك، وبهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم؛ الجواب الصحيح (2/131-134) بتلخيص.

كما يستدل النصارى على صحة عقيدتهم في بنوة المسيح لله - عز وجل - بما يدعونه ويتأوَّلونه كعادتهم من آيات الكتاب الحكيم، فيقولون:
1- إنه قد جاء في هذا الكتاب يقصدون القرآن الكريم الذي جاء به هذا الإنسان؛ أي: محمد - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171].

ويقولون: وهذا يوافق قولنا: إن المسيح لاهوت وناسوت؛ إذ قد شهد القرآن أنه إنسان مثلنا بالناسوت الذي أخذ من مريم، وكلمة الله وروحه المتحدة فيه، وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين، فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة؛ نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية (2/279).
 رد ابن تيمية
وقد رد ابن تيمية على استشهادهم هذا بقوله:
 إن دعواكم أيها النصارى على محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت كما تزعمون أنتم فيه، هي من الكذب الواضح المعلوم، فلو ادعى اليهود على محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُكذِّب المسيح - عليه السلام - ويجحد رسالته، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول: أنه رب العالمين، وأن اللاهوت والناسوت، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر فيما بلغه عن الله - عز وجل - بكفر من قال ذلك، وبما يناقض ذلك في غير موضع؛ كقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17]، ﴿ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة: 17].

وقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72].

وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30].

إلى غير ذلك من أمثال هذه الآيات، فكيف يزعمون أن القرآن يثبت لاهوت المسيح وهو يكفر صراحة كما رأينا من يثبت بنوته لله - تعالى - وألهيته.

2- ويقولون أيضًا في استدلالهم على ألوهية المسيح بآيات الكتاب الكريم في موضع آخر: إن الله قد سماه كذلك في هذا الكتاب خالقًا؛ حيث قال: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [المائدة: 110]، وهذا مما يوافق رأينا والكلام للنصارى، واعتقادنا في السيد المسيح لذكره؛ لأنه حيث قال: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49]؛ أي: بإذن اللاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت؛ نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية(2/ 287).

وقد أجاب شيخ الإسلام على ذلك بقوله: إن جميع ما يحتج به النصارى من هذه الآيات وغيرها، هو حجة عليهم لا لهم، وذلك من وجوه:
الوجه الأول
: أن الله لم يذكر عن المسيح خلقًا مطلقًا، ولا خلقًا عامًّا، كما ذكر عن نفسه - تبارك وتعالى - في كثير من الآيات، وأما المسيح - عليه السلام - فقال فيه: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي [المائدة: 110]، وقال المسيح عن نفسه: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49]، فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله، فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك؟!

الوجه الثاني
: أنه خلق من الطين كهيئة الطير، والمراد به: تصويره بصورة الطير، وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس، فإنه يمكن لأحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير، وغير الطير من الحيوانات، والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرًا بإذن الله - عز وجل - وليس مجرد خلقه من الطين، فإن هذا أمر مشترك.

الوجه الثالث
: أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير المحرم والنفخ بإذن الله تعالى، وأخبر المسيح - عليه السلام - أنه فعله بإذن الله، وأخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح - عليه السلام - كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف: 59].

وقوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [المائدة: 110].

وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله، إنما هو عبد الله، فعل ذلك بإذن الله، كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء، وصرح بأن الآذن غير المأذون له، والمعلِّم ليس هو المعلَّم، والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه، كما ليس هو والدته.

الوجه الرابع
: إنهم قالوا: أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت، ثم قالوا في قوله: بإذن الله؛ أي: بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت، وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن؛ لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، ففرق بين المسيح وبين الله، وبين أن الله هو الآذن للمسيح، وهؤلاء زعمهم أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بالناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن، فجعلوا الخالق هو الآذن، وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق