الأحد، 6 ديسمبر 2015

(4)الأناجيل الأربعة تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن


الأناجيل الأربعة تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن(4)

الشبهة الرابعة

قول عيسى عليه السلام : " الآب فيَّ و أنا في الآب " [11]


الإجابة عن هذه الشبهة:

الاستدلال بأمثال هذه العبارات على إلـهية المسيح ضعيف و باطل أيضا من عدة وجوه:

أولا: هذه النصوص واجبة التأويل عند جمهور أهل التثليث لكونهم جميعا لا يؤمنون بظاهرها الحرفي الذي يفيد حلول الله الآب في عيسى الناصري البشر، لأن جمهور المسيحيين يرون أن الله الابن ـ و ليس الآب ـ هوالذي تجسد في المسيح عليه السلام، و لذلك فهذا النص يؤولونه بأن المقصود بعبارة: " الآب فيَّ و أنا في الآب " اتحاد الآب و الابن في الجوهر أي الاتحاد الباطني، و إن كانا شخصيتين منفصلتين.
ثم يصححون حلول الله الابن في عيسى البشر الذي كان الناس يرونه ـ رغم أن الله تعالى لا يرى و لا تدركه الأبصار باتفاق المسيحيين كلهم ـ بأن المسيح كان إنسانا كاملا و إلـها كاملا بنفس الوقت! و لذلك صح هذا الحلول باعتبار لاهوته، و لكننا سبق و أن بينا بالتفصيل أن هذا باطل و مخالف لصريح العقل و بديهيات المنطق و الوجدان [12] .

إذن لا مجال للأخذ بظاهر هذا النص و بمعناه الحرفي بل لا بد من المصير إلى معنى مجازي لهذا الاتحاد المذكور، و سيأتيك فيما يلي توضيح هذا المعنى المجازي استنادا إلى نصوص متشابهة من نفس الإنجيل و رسائل القديسين.

ثانيا: في نفس الإصحاح من إنجيل يوحنا الذي جاءت فيه تلك العبارة، جاء في الآية 20 منه قول المسيح عليه السلام أيضا: " في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي و أنتم فيَّ و أنا فيكم " يوحنا: 14 / 20.

كذلك مر معنا في الشبهة الماضية قول المسيح عليه السلام في دعائه الله تعالى لأجل التلاميذ:

" ليكون الجميع واحدا كما أنك أيها الآب فِـيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني... (إلى قوله) أنا فيهم و أنت فـيَّ ليكونوا مكمِّـلين إلى واحد.." إنجيل يوحنا: 17 / 21 ـ 23.

فالمسيح عليه السلام لم يقل أن الله تعالى فيه و هو في الله فقط، بل كذلك قال أن الحواريين أيضا هم في المسيح و المسيح فيهم، و دعا أيضا الله تعالى أن يكون الحواريون في الله و في المسيح أيضا فقال: ليكونوا هم أيضا فينا!

فإذا كانت الكينونة " في الله " تعني الإلـهية، فإذن المسيح يدعو الله تعالى أن يصير تلاميذه آلهة! و هذا لا يقول به مسيحي.

ثم لما كان ـ حسب تلك العبارات ـ الآب في المسيح و المسيح في التلاميذ، إذن، الآب في التلاميذ أيضا لأن الحالَّ في حالٍٍّ في محلٍٍّ، حالٌّ أيضا في ذلك المحلِّ، فإذا كان ثبات الله تعالى في المسيح يدل على ألوهيته، فإن ثبات الله تعالى في التلاميذ يعني ألوهيتهم أيضا!! و هذا ما لا يعتقده مسيحي، إذن هذا الاتحاد في المحل و هذه الكينونة أو الثبات في الله، ليست مرادة بمعناها الحرفي، بل المراد منها معنى مجازي، فما هو؟ إن الحواريين أنفسهم و كتَّاب الرسائل الملحقة بالأناجيل في العهد الجديد حلوا لنا هذا الإشكال بكل وضوح، و هذا ما نراه في النقطة التالية:

ثالثـا: لقد جاءت مثل هذه التعبيرات مرات عديدة في رسائل العهد الجديد المكملة للأناجيل، و منها يظهر مرادهم من حلول الله تعالى أو ثباته في شخص، و فيما يلي بعض هذه النصوص التي تظهر إرادة هذا المعنى المجازي من تعبير الحلول و الثبات في الله:

(1) جاء في رسالة يوحنا الأولى (4/ 12ـ 15):

" الله لم ينظره أحد قط، إن أحب بعضنا بعضا فالله يثبت فينا و محبته قد تكملت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه و هو فينا أننا قد أعطانا من روحه. و نحن قد نظرنا و نشهد أن الله قد أرسل الابن مخلِّصا للعالم. من اعترف أن يسوع هو ابن الله فا لله يثبت فيه و هو في الله ".

(2) و جاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس (6 / 16):

" فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: أني سأسكن فيهم و أسير بينهم و أكون لهم إلـها و هم يكونون لي شعبا "

قلت: فمن هذه النصوص يتضح جليَّاً أن مرادهم من تعبير ثبات الله تعالى في المؤمنين المطيعين، هو أنه تعالى معهم و مؤيد لهم و محب و ناصر لهم و أنه تعالى جعل إرادتهم مثل إرادته و مشيئتهم كمشيئته، إذ لو كان ثبات الشخص في الله أو ثبات الله فيه مشعرا بالاتحاد و مثبتا للألوهية للزم أن يكون الحواريون، بل جميع أهل كورنثوس و جميع الصالحين آلهة!!، فكذلك تماما ثبات الله تعالى في المسيح و ثبات المسيح فيه معناه أن ما يقوله المسيح و يفعله هو قول الله تعالى و فعله و مطابق لمشيئته و منطلق من تأييده و محبته و رضوانه، فإرادتهما متحدة و هدفهما واحد.

الشبهة الخامسة

قول المسيح عليه السلام : " الذي رآني فقد رأى الآب " يوحنا:14 / 9.


مناقشة هذه الشبهة :

لفهم هذه العبارة لا بد أن نلاحظ تمام الكلام الذي جاءت في وسطه. لقد جاءت هذه العبارة ضمن حوار، رواه يوحنا في إنجيله (14/1 ـ 10)، جرى بين المسيح عليه السلام و تلاميذه الإثني عشر، في العشاء الأخير، و فيه يقول المسيح:

" لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة. و إلا فإني كنت قد قلت لكم. أنا أمضي لأعد لكم مكانا. و إن مضيت و أعددت لكم مكانا آتي أيضا و آخذكم إلى حيث أنا تكونون أنتم أيضا. و تعلمون حيث أنا أذهب و تعلمون الطريق. قال له توما: يا سيد لسنا نعلم أين تذهب كيف نقدر أن نعرف الطريق ؟ قال له يسوع: أنا هو الطريق و الحق و الحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضا. و من الآن تعرفونه و قد رأيتموه. قال له فيليبس: يا سيد أرنا الآب و كفانا. قال له يسوع: أنا معكم زمانا هذه مدته و لم تعرفني يا فيليبس. الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب ؟ ألست تؤمن أني أنا في الآب و الآب فـيَّ؟ الكلام الذي أكلمكم به ليس أتكلم به من نفسي لكن الآب الحالَّ فيَّ هو يعمل الأعمال "

و الآن نقول: إن الاستدلال بقول المسيح “ من رآني فقد رأى الآب “ على ألوهيته، استدلال في غاية الضعف، لأن المجاز في هذا التعبير، خاصة لمن يلاحظ السياق الذي جاء به، أوضح من أن يُسْتدل عليه.
فأولاً: لا يمكن أن يكون المعنى الحرفي مرادا، حتى عند جمهور النصارى، لأنه لا أحد منهم يعتقد أن ذلك الـمُشَاهَد، أي جسم عيسى المادي، هو الله تعالى أي الآب الذي في السموات نفسه! لأن الآب تعالى ليس بجسم و لا يُحَدُّ و لا يُرى، باتفاق جميع النصارى، لذلك يؤولون الرؤية هنا بالمعرفة و يقولون أن المعنى أن من عرفني و عرف حقيقتي اللاهوتية فقد عرف الآب، لكن سبق و بينا أنه من المحال أن يكون الشخص الواحد بعينه إلـها و بشرا بنفس الوقت، فهذا التأويل باطل.

إذن هم متفقون معنا على أن مثل هذا التعبير لا يراد به معناه الظاهري الحرفي أي تطابق المفعول به الأول للرؤية مع المفعول به الثاني لها، تطابقا حقيقيا تاما بكونهما شيئا واحدا، بل يراد به معنى مجازي، فلا بد من المصير إلى مجاز منطقي يقبله العقل و تساعد عليه النصوص الإنجيلية المماثلة الأخرى.

مثلاً في إنجيل لوقا (10/16) يقول المسيح عليه السلام لتلاميذه السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد للتبشير :

" الذي يسمع منكم يسمعني و الذي يرذلكم يرذلني و الذي يرذلني يرذل الذي أرسلني "

و لا يوجد حتى أحمق فضلا عن عاقل يستدل بقوله عليه السلام : " من يسمعكم يسمعني "، على أن المسيح حالٌّ بالتلاميذ أو أنهم المسيح ذاته !


و كذلك جاء في إنجيل متى (10/40) أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه:

" من يقبلكم يقبلني و من يقبلني يقبل الذي أرسلني ".

و مثله ما جاء في إنجيل لوقا (9/48) من قول المسيح عليه السلام في حق الولد الصغير:

"من قبل هذا الولد الصغير باسمي يقبلني و من قبلني يقبل الذي أرسلني"

و وجه هذا المجاز واضح و هو أن شخصا ما إذا أرسل رسولا أو مبعوثا أو ممثلا عن نفسه فكل ما يُـعَامَلُ به هذا الرسول يعتبر في الحقيقة معاملة للشخص المرسِـل أيضا.

فالآن نعود لعبارتنا وللنص الذي جاءت فيه، فنرى أن الكلام كان عن المكان الذي سيذهب إليه المسيح و أنه ذاهب إلى ربه، ثم سؤال توما عن الطريق إلى الله، فأجابه المسيح أنه هو الطريق، أي أن حياته و أفعاله و أقواله و تعاليمه هي طريق السير و الوصول إلى الله، ثم يطلب فيليبس من المسيح أن يريه الله، فيقول له متعجبا: كل هذه المدة أنا معكم و ما زلت تريد رؤية الله، و معلوم أن الله تعالى ليس جسما حتى يرى، فمن رأى المسيح و معجزاته و أخلاقه و تعاليمه التي تجلى فيها الله تبارك و تعالى أعظم تجل، فكأنه رأى الله، ثم شرح المسيح ذلك ـ و هنا بيت القصيد ـ فقال: " إن الكلام الذي أقوله لكم لا أقوله من عندي بل الآب الحال في يعمل أعماله صدقوني أني في الآب و الآب فيَّ "، و هنا نعيد للأذهان إجابتنا عن الشبهة السابقة و أن حلول الله في الشخص و العكس المقصود منه، بلغة الإنجيل، تـو لِّـي الله لهذا الشخص و نشوء التوافق الكامل بينه و بين الله في الإرادة و الهدف و القصد و المشيئة و المحبة أو بتعبير الصوفية المحو عن النفس و الفناء في الله.

و حاصل الكلام أن المسيح لما كان رسولَ الله و كلمتَه و روحا منه و كان لا يتكلم إلا بأمره و وحيه و كانت أعماله و معجزاته و تعاليمه كلها من عند الله و بأمر الله و برضا الله و فيها تجلى الله و عرف مراده و تجلت صفاته، كان ممثلا عن الله، و بالتالي حسن التجوز بالتعبير من أن من رآه فقد رأى الله.


و نحو هذا المجاز كثير في العهد القديم كذلك، فعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى على لسان النبي إرميا:

" أكلني ابتلعني بختنصر ملك بابل، جعلني كإناء فارغ، بلعني كتنين، ملأ بطنه من رخصتي و طردني " سفر إرميا: 51 / 34.

و جاء نحو هذا المجاز أيضا، في القرآن الكريم، كثيراً كقوله تعالى: " و ما رميت إذا رميت و لكن الله رمى " الأنفال/ 17. أو قوله سبحانه: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " الفتح / 10، أو قوله تعالى : " من يطع الرسول فقد أطاع الله " النساء / 80.

الشبهة السادسة

قول عيسى عليه السلام : " أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم "

قالوا: ففي هذا النص أكد اختلافه عنا نحن البشر و أنه ليس من هذا العالم المادي بل هو من فوق و أنه نزل إلى الأرض من السماء، فكل هذا يدل على أنه إلـهٌ نزل و تجسَّـد.



الرد على هذه الشبهة :

بالنسبة للآية الأولى فإن عيسى عليه السلام قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضا، فقد جاء في إنجيل يوحنا هذا (15/19): " لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته و لكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم "

و في الإصحاح 17 من هذا الإنجيل أيضا يقول عيسى في دعائه لأجل التلاميذ:

" أنا قد أعطيتهم كلامك و العالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ليسوا من العالم كما أني لست من العالم " يوحنا: 17 / 14 ـ 15.

فقال في حق تلاميذه أنهم ليسوا من العالم و سوَّى بينه وبينهم في عدم الكون من هذا العالم، فلو كان هذا مستلزما للألوهية كما زعموا، للزم أن يكونوا كلهم آلهة ـ و العياذ بالله ـ [13] ، بل التأويل الصحيح لتلك الآية الإنجيلية هو: أنا لست من أبناء هذه الدنيا، أي الراكنين إليها المطمئنين بها الراغبين بها، بل من طلاب الله و الآخرة، الذين ليس في قلبهم تعلق و حب إلا لِلَّه، فأنا من أهل ذلك العالم العلوي القدسي عالم الأطهار و الملائكة، لأنه هو قبلتي و وجهتي و منه جئت برسالة الله و إليه أعود بعد أدائها.
فتعبيره نوع من المجاز، و هو مجاز شائع معروف، يقال فلان ليس من هذا العالم، يعني هو لا يعيش في الدنيا و لا يهتم بها و لا بمفاتنها بل همُّـهُ كله الله و الدار الآخرة فقط.

الشبهة السابعة

قوله عليه السلام : " و ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء " [14]


الرد على هذه الشبهة:

أولا: في هذه الآية، جملة محرفة مضافة، و هي جملة " الذي هو في السماء " الأخيرة. و قد أقر بذلك شراح الأناجيل، كما جاء ذلك في كتاب تفسير الكتاب المقدس حيث قال: " الذي هو في السماء: هذه العبارة لم ترد في أقدم المخطوطات " [15] .
و لذلك فإن الترجمة العربية الجديدة المنقحة للكتاب المقدس التي قامت بها الرهبانية اليسوعية، حذفت هذه الجملة من ترجمتها و أوردت النص كما يلي: " فما من أحد يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء و هو ابن الإنسان ".

ثانيا: لوأخذنا النزول من السماء على معناه الحرفي فليس فيه أي إثبات لإلـهية المسيح، إذ أن نزول الشخص أو الكائن من السماء إلى الأرض لا يفيد إلـهيته لا من قريب ولا من بعيد، فكثير من الكائنات الملكوتية نزلت من السماء، كجبريل مثلا الذي كان ينزل من السماء إلى الأرض حاملا رسالات الله أو منفذا أمرا من أوامر الله عز و جل، كما أنه في كثير من الأحيان، هبطت بعض الملائكة إلى الأرض آخذة لباسا بشريا، كالملائكة الثلاثة، الذين جاؤوارا لزيارة إبراهيم عليه السلام و بشارته ثم ذهبوا إلى لوط عليه السلام ليطمئنوه حول نزول العذاب على قومه الفاسقين.

فأقصى ما يفيده مثل هذا النص، لو أخذ على معناه الحرفي، هو أن المسيح كان مخلوقا بالروح قبل أن يلد كإنسان على الأرض، ثم لما جاء وقته نزل بأمر الله إلى الأرض و ولد كسائر البشر بالجسد و الروح. فأين في هذا أي دليل على ألوهيته؟!

ثالثا:  والحقيقة أن هذا التعبير بنزول المسيح من السماء لا يقصد به معناه الحرفي بل هو ذو معنى مجازي، و لفهمه على وجهه الصحيح لا بدَّ أن نقرأ ذلك النص و تلك الآية ضمن سياقها سباقها و لحاقها، فقصة هذا الكلام تبدأ من أول الإصحاح الثالث في إنجيل لوقا هكذا:

" كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيسا لليهود. هذا جاء إلى يسوع ليلا و قال له يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلما لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه. أجاب يسوع و قال له: الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله. قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يولد و هو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية و يولد؟ أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء و الروح لا يقدر أن يرى ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، و المولود من الروح هو روح. لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق. الريح تهب حيث تشاء و تسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي و لا إلى أين تذهب. هكذا كل من ولد من الروح. أجاب نيقوديموس و قال له: كيف يمكن أن يكون هذا؟ أجاب يسوع و قال له: أنت معلم إسرائيل و لست تعلم هذا؟ الحق الحق أقول لك، إننا إنما نتكلم بما نعلم و نشهد بما رأينا و لستم تقبلون شهادتنا. إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلت لكم السمويات. و ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء " يوحنا: 3 / 1 ـ 13.


قلت: بتأمل هذا النص يتبين لنا أن المسيح عليه السلام يمثل للولادة الروحية الجديدة بالولادة من فوق أو الولادة من الروح، و أن من لم يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله، فالولادة من فوق أو من الروح، تعبير مجازي عن الانقلاب الروحي الشامل للإنسان الذي يشرح الله تعالى فيه صدره و يفتح قلبه و بصيرته لنوره، فتتغير كل رغباته و هدفه في الحياة حيث يخرج عن عبادة ذاته و حرصه على الدنيا لتصبح إرادته مستسلمة و موافقة لإرادة الله و يصبح هدفه هو الله تعالى و رضوانه و محبته و صحبته و جواره في دار السلام لا غير، فكأنه بهذا ولد من جديد، و من هذا المنطلق يقول المسيح عن نفسه أنه نزل من السماء: أي أنه رسول الله و مبعوث السماء، اجتباه الله و قدسه و جعله سفيره إلى الخلق، فهذا معنى نزوله من السماء، بدليل مقارنته و مشابهته عليه السلام بين هذا النزول من السماء و بين الولادة من فوق التي يجب أن يحصل عليها كل إنسان لكي يرى ملكوت الله.
و لو رجعنا لتفسير الكتاب المقدس لوجدناه يفسر العبارة بتفسير غير بعيد عما ذكرناه فيقول: " (12) لم يصعد أحد إلى السماء، و مع ذلك فقد أراد الله أن يكون هناك نزول من السماء إلى الأرض (13) قد أتى يسوع من السماء بمعرفة كاملة لله، ليعلن اللهَ للناس " [16] .

الشبهة الثامنة

قول المسيح عليه السلام : " قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن "


مزيد من البسط للشبهة :

و مثل ذلك أيضا قول النبي يحيى (يوحنا المعمدان) عن المسيح: " هذا (أي المسيح) الذي قلت فيه: إن الآتي بعدي قد تقدمني لأنه كان من قبلي " إنجيل يوحنا: 1/15.

كما توجد بعض النصوص الأخرى التي تفيد حسب ظاهرها ـ لكن بأقل صراحة من المذكور أعلاه ـ أن عيسى عليه السلام كان قبل خلق هذا العالم و ذلك كالعبارات التي جاءت في دعاء عيسى عليه السلام لأجل التلاميذ، في الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا:

" و الآن مجدني أيها الآب عن ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم " يوحنا: 17 / 5.

" أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم "يوحنا:17/24.



الرد على هذه الشبهة:

أولا: كون الشخص وجد قبل إبراهيم أو قبل يحيى (عليهما السلام) أو حتى قبل آدم أو قبل خلق الكون كله، لا يفيد، بحد ذاته، ألوهيته بحال من الأحوال، بل أقصى ما يفيده هو أن الله تعالى خلقه قبل خلق العالم أو قبل خلق جنس البشر، مما يفيد أنه ذو حظوة خاصة و مكانة سامية و قرب خصوصي من الله سبحانه وتعالى ، أما أنه هو الله، فهذا يحتاج لنص صريح آخر، و ليس شيء من العبارات المذكورة أعلاه بنص في ذلك على الإطلاق، و هذا لا يحتاج إلى تأمل كثير.

ثانيا: هذا إن أخذنا ذلك التقدم الزماني على ظاهره الحرفي، مع أنه من الممكن جدا أن يكون ذلك من قبيل المجاز، بل قرائن الكلام تجعل المصير إلى المعنى المجازي متعينا، و هذا يحتاج منا لذكر سياق تلك العبارة من أولها:

جاء في إنجيل يوحنا (8 / 56 ـ 59):

"... و كم تشوق أبوكم إبراهيم أن يرى يومي، فرآه و ابتهج. قال له اليهود: كيف رأيت إبراهيم، و ما بلغت الخمسين بعد؟ فأجابهم: ((الحق الحق أقول لكم: كنت قبل أن يكون إبراهيم)) فأخذوا حجارة ليرجموه، فاختفى و خرج من الهيكل " [17] .

فقبلية عيسى المسيح على إبراهيم هنا، لا يمكن أن تكون قبلية حقيقية في نظر النصارى، لا باعتبار ناسوت المسيح المنفك عن اللاهوت طبقا لاعتقادهم، لأن ولادة عيسى الإنسان كانت بعد إبراهيم عليه السلام اتفاقا، و لا باعتبار حصول الحقيقة الثـالثـة المدعاة له أي تعـلُّـق اللاهوت بالناسوت [18] ، لأن ذلك تم مع ولادة المسيح من العذراء و روح القدس الذي تم أيضا بعد إبراهيم اتفاقا.

و لا يمكن أن يكون قصده سبق المسيح على إبراهيم باعتبار لاهوته الأزلي المدَّعى، بقرينة أن بداية الكلام كانت عن رؤية إبراهيم لهذا اليوم، أي يوم بعثة المسيح و رسالته، و ابتهاج إبراهيم به، فالكلام إذن عن رؤية المسيح المبعوث في الأرض، و هذا تم بعد إبراهيم اتفاقا، فلم يبق إلا أن يكون المراد بالقبلية علم الله السابق بتقدير إرسال عيسى عليه السلام في هذا الوقت، و ما يترتب عليه من الإرشاد و الرحمة بالعباد. فإن قيل: أيُّ خصوصية للمسيح في ذلك، إذ أن هذا المحمل ـ أي علم الله السابق ـ مشترك بينه و بين سائر الأنبياء، بل جميع البشر؟

فالجواب: أنه عليه السلام لم يذكر ذلك في معرض الخصوصية، و إنما ذكره قاطعا به استبعاد اليهود لسرور إبراهيم و فرحه بيومه، و تصحيحا لصدقه فيما أخبر و لصحة رسالته، ببيان أن دعوى رسالته ثابتة في نفس الأمر و مقررة سابقا و أزلا في علم الله القديم [19] .

و قد ورد مثل ذلك في ألفاظ خاتم المرسلين سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: "كنت نبيا و آدم بين الروح و الجـسـد " [20] .

الشبهة التاسعة

قول المسيح عليه السلام لليهود: " كيف يُـقال لمسيح أنه ابن داود، و داود نفسه يقول في كتاب المزامير (( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك)) فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟ " [21]


الرد على هذه الشبهة :

الحقيقة أن من يتأمل تلك الجملة التي استشهد بها السيد المسيح عليه السلام من سفر المزامير معتبرا إياها بشارة في حقه، يراها دليلا واضحا على نفي إلـهية المسيح لا على إثبات إلـهيته!

فعبارة المزامير تقول: [قال الرب (أي الله سبحانه وتعالى) لربي (أي المسيح) اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطأً لقدميك]، و بناء على هذه الجملة لا يمكن أن يكون المقصود من كلمة ربي الثانية هو الله أيضا، و ذلك لأن المعنى سيصبح عندئذ: قال الله لِـلَّه اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك!! و كيف يجلس الله عن يمين نفسه!؟ ثم إذا كان ربي الثانية إلها فإنه لا يحتاج لأحد حتى يجعل أعداءه موطئا لقدميه، بل هو نفسه يسخر أعداءه بنفسه و لا يحتاج إلى من يسخرهم له، هذا كله عدا عن أن مخاطبة الله لإلـه آخر تعني وجود إلهين اثنين و هذا يناقض عقيدة التوحيد التي هي أساس الرسالات السماوية! فهذا كله يؤكد أن ربي الثانية ليس الله و لا بإلـه ثان بل لا بد أن يكون معناها شيئا غير ذلك، فما هو؟

الحقيقة أن ما يريده المسيح عليه السلام من عبارته تلك هو تذكير اليهود بمقامه العظيم ـ الذي تشير إليه عبارة نبيهم داود عليه السلام ـ قائلا لهم: كيف تعتبرون المسيح مجرد ابنٍ لداود مع أن داود نفسه اعتبر المسيح الآتي المبشر به و الذي سيجعله الله دائنا لنبي إسرائيل يوم الدينونة: ربَّاً له: أي سيدا له و معلما ؟!

و بمراجعة بسيطة للأناجيل ندرك أن لفظة الرب تستخدم بحق المسيح بمعنى السيد و المعلم، و قد سبقت الإشارة لذلك و لا مانع أن نعيدها هنا، فقد جاء في إنجيل يوحنا (1/38): " فقالا: ربي! الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟ " و جاء فيه أيضا: (20/16): " قال لها يسوع: يا مريم! فالتفتت تلك و قالت له: ربوني! الذي تفسيره يا معلم ".

هذا ما ذكرته بنفسي دون الاطلاع على النص الأصلي لتلك البشارة كما جاء في الترجمة العربية الحديثة للكتاب المقدس، التي قامت بها الرهبانية اليسوعية ببيروت (1989)، فلما راجعت هذا النص وجدت ترجمتهم له عين ما توصلت إليه، فقد جاء في المزمور 110 / آية 1 ما يلي: " قال الرب لســـيَّدي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك ". و الحمد لله الذي أظهر الحق.

الشبهة العاشرة

قول المسيح عليه السلام : " و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا " [22]

و وجه استدلالهم بهذا النص أن غفران الخطايا أمر منحصر بالله سبحانه وتعالى ، فإذا كان للمسيح ذلك السلطان، فهذا يعني أنه الله تعالى.



الرد على هذه الشبهة :

أولا: لمناقشة هذه الشبهة علينا أن نرجع إلى النص الكامل للواقعة التي جاء هذا الكلام للمسيح فيها.

يبتدأ الإصحاح التاسع من إنجيل متى بذكر هذه الواقعة فيقول :

" فدخل السفينة و اجتاز و جاء إلى مدينته. و إذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحا على فراش. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج ثق يا بني. مغفورة لك خطاياك. و إذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يجدف. فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم. أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم و امش؟ و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا. حينئذ قال للمفلوج. قم احمل فراشك و اذهب إلى بيتك. فقام و مضى إلى بيته. فلما رأى الجموع تعجبوا و مجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا " متى: 9 /1 ـ 8.

هناك أمران في هذا النص تنبغي ملاحظتهما لأنهما يلقيان ضوءا على حقيقة سلطان السيد المسيح عليه السلام لغفران الخطايا :

الأول: أن المسيح لم يقل للمفلوج: ثق يا بني لقد غفرتُ لك خطاياك! بل أنبأه قائلا: مغفورة لك خطاياك. و الفرق واضح بين الجملتين، فالجملة الثانية لا تفيد أكثر من إعلام المفلوج بأن الله تعالى قد غفر ذنوبه، و ليس في هذا الإعلام أي دليل على ألوهية المسيح، لأن الأنبياء و الرسل المؤيدين بالوحي و المتصلين بجبريل الأمين، يطلعون، بإطلاع الله تعالى لهم، على كثير من المغيبات و الشؤون الأخروية و منها العاقبة الأخروية لبعض الناس، كما أخبر نبينا محمد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن بعض صحابته فبشرهم أنهم من أهل الجنة و عن آخرين فبشرهم أنهم من أهل النار.

ثانيا: قد يشكل على ما قلناه قول المسيح فيما بعد: و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا علىالأرض أن يغفر الخطايا، فنسب غفران الخطايا لنفسه.
قلنا: آخر النص يجعلنا نحمل هذه النسبة على النسبة المجازية، أي على معنى أن ابن الإنسان (المسيح) خوله الله أن يعلن غفران خطايا، و ذلك لأن الجملة الأخيرة في النص السابق تقول: " فلما رأى الجموع ذلك تعجبوا و مجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا "، فالغافر بالأصل و الأساس هو الله تعالى، ثم هو الذي منح هذا الحق للمسيح و أقدره عليه، لأن المسيح فنى في الله تعالى و كان على أعلى مقام من الصلة بالله و الكشف الروحي و لا يتحرك إلا ضمن حكمه و إرادته فلا يبشر بالغفران إلا من استحق ذلك.

و مما يؤكد أن غفران المسيح للذنوب هو تخويل إجمالي من الله تعالى له بذلك، و ليس بقدرة ذاتيه له عليه السلام ، هو أن المسيح، في بعض الحالات، كان يطلب المغفرة للبعض من الله تعالى فقد جاء في إنجيل لوقا (23 / 34):

" فقال يسوع: يا أبتاه! اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ".

فانظر كيف طلب من الله غفران ذنبهم و لو كان إلـها يغفر الذنوب بذاته و مستقلا، كما ادعوا، لغفر ذنوبهم بنفسه.

فهذا السلطان بغفران الخطايا الذي أعطاه الله تعالى للمسيح، شبيه بذلك السلطان الذي منحه المسيح أيضا لحوارييه الخلص بعد ظهوره لهم من جديد، بعد صلبه (الذي شُـبِّـهَ لهم به)، حين قال:

" فقال لهم يسوع أيضا: سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. و لمّا قال هذا نفخ و قال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. من أمسكتم خطاياه أمسكت " يوحنا: 20 / 21 ـ 23.

و شبيه بذلك السلطان الذي منحه لبطرس رئيس الحواريين حين قال له:

" طوبى لك يا سمعان بن يونى، إن لحما و دما لم يعلنا لك. لكن أبي الذي في السموات. و أنا أقول أيضا: أنت بطرس و على هذه الصخرة أبني كنيستي و أبواب الجحيم لن تقوى عليها. و أعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، و كل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات " متى: 11 / 17 ـ 18.

فكما أن هذا السلطان بغفران الخطايا الذي ناله بطرس خاصة و الحواريون عامة، بإذن الله، عبر المسيح، لا يفيد ألوهيتهم؛ فكذلك امتلاك المسيح لذلك السلطان، بإذن الله، لا يفيد ألوهيته.

هذا و من الجدير بالذكر أن الكنيسة الكاثوليكية قد توسعت لحد بعيد في إعطاء هذا الحق بغفران الخطايا من بطرس لخلفائه الباباوات و حتى لمن يرسمونهم من الأساقفة، و منه نشأ تقليد الاعتراف للقسيس و غفران الأخير لذنوب المعترف! بل وصل الأمر في عصر من العصور لبيع صكوك الغفران و بيع قطع الأرض في الجنة جاهزةً لمن يتبرع للكنيسة، و من المفيد أن ننقل هنا نصا لأحد صكوك الفغران، كما جاء في كتاب " سوسنة سليمان في أصول العقائد و الأديان " لمؤلفه (النصراني) نوفل أفندي نوفل، حيث ذكر ترجمة لأحد صكوك الغفران التي كانت تباع في مدينة ويتمبرغ الألمانية (التي كان مارتن لوثر يدرس فيها) عام 1513 م. و نص الصك كما يلي:

" ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان و يُحِلُّكَ باستحقاقات آلامه الكلية القداسة و أنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحـلك من جميع القصاصات و الأحكام و الطائلات الكنسية التي استوجبتها و أيضا من جميع الافراط و الخطايا و الذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة و فظيعة و من كل علة و لئن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا و الكرسي الرسولي، و أمحو جميع العجز و كل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، و أردك حديثا إلى الشركة في أسرار الكنيسة و أقرنك في شركة القديسين، و أردك ثانية إلى الطهارة و البر اللذين كانا لك عند معموديتك حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذابات و العقاب و يفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، إن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة... باسم الآب و الابن و الروح القدس الواحد، آميــن. " [23]

و بناء على ما ذكر نقول: أنه لو كان امتلاك حق غفران الخطايا يدل على ألوهية مالك هذا الحق للزم منه أن يعتبر الحواريون و القديس بطرس الرسول و بولس و كل آباء الكنيسة و اساقفتها المخولون ذلك الحق آلهة أيضا!! و هذا ما لا يقول به أحد.

و إذا بطل اللازم، بطل الملزوم، فبطل الاستدلال بسلطان المسيح على غفران الخطايا، على ألوهيته.

الشبهة الحادية عشرة

قول توما للمسيح عليه السلام : " ربي و إلهي! " و عدم اعتراض المسيح على ذلك.


الرد على هذه الشبهة:

لمناقشة هذه الشبهة علينا أن نرجع أولا إلى النص الكامل للواقعة التي خاطب فيها توما معلمه المسيح عليه السلام بتلك العبارة، و فيما يلي نصها:

" و بعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضا داخلاً و توما معهم. فجاء يسوع و الأبواب مغلقة و وقف في الوسط و قال سلام لكم. ثم قال لتوما: هات اصبعك إلى هنا و أبصر يدي و هات يدك و ضعها في جنبي و لا تكن غير مؤمن بل مؤمنا. أجاب توما و قال له: ربي و إلهي! فقال له يسوع: لأنك رأيتني يا توما آمنت؟ طوبى للذين آمنوا و لم يروا! "

من هذا السياق يتضح أن ما أطلقه توما من عبارة كان في موضع الاندهاش و التعجب الشديد فقال: ربي و إلهي! و لا يقصد أن المسيح نفسه ربه و إلهه، بل هو كما يقول أحدنا إذا رأى فجأة أمرا مدهشا و محيرا للغاية: ألـلــه! أو يا إلــهي!!، فهي صيحةٌ لله تعالى و ليست تأليها للمسيح.

و حتى لو سلمنا أن هذه الصيحة لم تكن لله الآب تعالى، بل قصد توما بها المسيحَ نفسه عليه السلام، فهذا أيضا لن يكون دليلا على تأليه المسيح لأن لفظة الإلـه في الكتاب المقدس، مثلهامثل لفظة الرب، تأتي أحيانا على معان مجازية، لا تفيد الربوبية و لا الألوهية الخاصة بالله سبحانه وتعالى ، أما بالنسبة للفظة الرب فقد بينا أكثر من مرة أنه يقصد بها " السيد المعلم " [24] ، و لا حاجة للإعادة هنا.
و أما بالنسبة للفظة الإله، فنرجع القارئ الكريم إلى ما تقدم ذكره حول إطلاق المسيح و التوراة كذلك لفظة الآلــهة على المؤمنين الربانيين الذين صار إليهم وحي الله فالتزموا بوحي الله و ما أنزله عليهم من منهج و تعاليم [25] , و نضيف على ذلك هذه العبارة من التوراة:

" قد جعلتك إلـها لفرعون، و أخاك هارون رسولك " الخروج: 17/1.

فهذا النص يبين أنه في لغة الكتاب المقدس
Bible تأت أحيانا لفظة الإله للدلالة على السيد الكبير و النبي العظيم.

و لذلك يحتمل أن يكون المراد بقول توما للمسيح: " ربي و إلـهي "، هذا المعنى بالذات، و ما دام هذه الاحتمال وارد، لم تعد تلك اللفظة كافية للدلالة على إلـهية المسيح، لأنه كما يقولون: إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
هذا فضلا عن أن القول بإلهية ذلك الإنسان البشر، الذي أثبت الإنجيل نفسه صفاته البشرية المحضة و عروض جميع عوارض الضعف البشري الطبيعي عليه، يستتبع محالات عقلية سبقت الإشارة إليها مما يغني عن إعادتها.
و بهذا نكون قد أتينا على جميع الشبهات القولية التي يستند إليها المؤلهون للمسيح عليه السلام لننتقل الآن لشبهاتهم من الولادة المعجزة و الأعمال الخارقة للمسيح عليه السلام .
______________________

ب ـ الشبهات من أحوال و معجزات المسيح عليه السلام :

و الرد على هذه الشبهات في غاية السهولة و الوضوح، ذلك أن كل ما أثبته الإنجيل، و العهد الجديد بشكل عام، للمسيح عليه السلام ، من أحوال خارقة كولادته من غير أبوين أو ارتفاعه بعد موته (حسب تصورهم)، و من معجزات و أعمال خارقة كإحياء الموتى و شفاء الأعمى و الأبرص من الولادة و غير ذلك، أثبت الكتاب المقدس مثلها تماما أو حتى أكبر منها، لغيره من الأنبياء أو للحواريين، فإن كانت تلك الأحوال و المعجزات دليلا على ألوهية صاحبها، فإن الألوهية عندئذ لن تقتصر على السيد المسيح فحسب، بل ستعم أولـئك الأنبياء الذين سبقوه و الذين كانت لهم مثل معجزاته و أحواله، بل ستعم الألوهية حوارييه و تلاميذه و تلاميذ تلاميذه الذين ظهرت على يديهم ـ حسب كلام العهد الجديد ـ مثل معجزاته أيضا!. و إليك تفصيل هذا المجمل :


1ـ رد الاستدلال بولادة المسيح من غير أب، بل بنفخة من روح الله، على ألوهيته :

ليس في ولادة المسيح عليه السلام من غير أب و أنه ولد من نفخ روح القدس، أي دليل على ألوهيته، فآدم عليه السلام ولد أيضا ـ باتفاق النصارى و المسلمين ـ من غير أب و لا أم، بل من نفخ الله تعالى فيه من روحه، أي من روح قدسه، و هذا ما أوضحه القرآن الكريم بأفضل بيان، في معرض رده على الذين يؤلهون المسيح استنادا لولادته الإعجازية، فقال:

{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } آل عمران / 59 ـ 60.

بل يذكر العهد الجديد اسم كاهن مقدس وجد منذ قديم الأيام بلا أب و لا أم أيضا و هو الكاهن "ملكي صادق" و لم يقل أحد من المسيحيين بألوهيته !
 لننظر ماذا جاء عنه في الإصحاح السابع من الرسالة إلى العبرانيين المعتبرة أحد الراسائل القانونية الإلهامية في كتاب العهد الجديد:

" و كان ملكيصادق هذا ملك ساليم و كاهن الله تعالى، خرج لملاقاة إبراهيم عند رجوعه بعد ما هزم الملوك و باركه، و أعطاه إبراهيم العشر من كل شيء، و تفسير اسمه أولاً ملك العدل ثم ملك ساليم أي ملك السلام. و هو لا أب له و لا أم و لا نسب و لا لأيامه بداءة و لا لحياته نهاية. و لكنه على مثال ابن الله، يبقى كاهنا إلى الأبد " الرسالة إلى العبرانيين: 7 /1 ـ 3.

فإذا كان ملكي صادق، رغم كونه بلا بداية و لا أب و لا أم و لا نسب، عبدا مخلوقا، بإقرار النصارى جميعا، حيث لم يقل أحد منهم بألوهيته، فكيف إذن يصح استدلالهم باتصاف المسيح ببعض هذه الصفات على ألوهيته؟!



2 ـ رد الاستدلال بأعمال المسيح المعجزة الخارقة على ألوهيته :

ما من معجزة نقلها الإنجيل عن المسيح عليه السلام، إلا نقل كتاب العهد القديم وقوع مثلها أو أقوى منها عن بعض من سبق المسيح من الأنبياء عليهم السلام، و نقل كتاب العهد الجديد وقوع مثلها أيضا على يد حواريي المسيح، أو نقل بيان المسيح إمكانية وقوعها على يد كل مؤمن صادق من تلامذته و أتباعه إذا تمحض كمال الإيمان و أخلص العمل. و فيما يلي شواهد على ما نقول:

أ ـ فبالنسبة لإحياء الموتى، كلنا يعرف معجزة موسى عليه السلام بقلب العصا حية حقيقية أمام فرعون و سحرته [26] ، و هذه المعجزة أشد إعجازا من إحياء عيسى عليه السلام للميت، لأن معجزة عيسى عليه السلام ليس فيها إلا بعث الحياة في هيكل إنساني كامل موجود، في حين اشتملت معجزة موسى عليه السلام على أمرين :
أولاً: تغيير شكل و صورة العصا و إيجاد صورة و شكل جديدين لها بتحويلها لحية تسعى ذات عينين و لسان و جلد، و ثانياً: بعث الحياة فيها.

و كذلك يروي لنا العهد القديم قصة إحياء النبي إيليَّـا عليه السلام ابنَ المرأة الأرملة، التي كانت تعوله عندما كان ملتجأً في قرية صرفة قرب صيدون [27] و التي مات ابنها لشدة المرض، فدعا إيليا ربه فاستجاب له و بعث الحياة من جديد في الولد الميت.

و كذلك يروي لنا سفر أعمال الرسل من العهد الجديد، قصة إحياء القديس بطرس الرسول، تلميذ المسيح المقرب و حواريه، للتلميذة الصالحة " طابيـثـا " من أهل " يافا "، بعد أن ماتت و غسلت و وضعت في قبرها، و فيما يلي ننقل هذه القصة كما جاءت في آخر الإصحاح التاسع من سفر أعمال الرسل:

" و كان في يافا تلميذة اسمها طابيـثـا، الذي ترجمته غزالة. هذه كانت ممتلئة أعمالا صالحة و إحسانات كانت تعملها. و حدث في تلك الأيام أنها مرضت و ماتت فغسلوها و وضعوها في عُـلِّـيَّـة. و لما كانت اللدُّ قريبة من يافا و سمع التلاميذ أن بطرس فيها أرسلوا رجلين يطلبان إليه أن لا يتوانى عن أن يجتاز إليهم. فقام بطرس و جاء معهما. فلما وصلوا صعدوا به إلى الـعُـلِّـيَّـة فوقفت لديه جميع الأرامل يبكين و يرين أقمصة و ثيابا مما كانت تعمل غزالة و هي معهن، فأخرج بطرس الجميع خارجا و جثا على ركبتيه و صلى ثم التفت إلى الجسد و قال: يا طابيـثـا قومي. ففتحت عينيها. و لما أبصرت بطرس جلست. فناولها يده و أقامها. ثم نادى القديسين و الأرامل و أحضرها حية. فصار ذلك معلوما في يافا فآمن كثيرون بالرب " أعمال الرسل: 9 / 36 ـ 41.

ب ـ و بالنسبة لشفاء ذوي العاهات الخلقية المستديمة كشفاء الأبرص و المقعد من الولادة و الأعرج... إلخ.. و إخراج الشياطين من المجانين و المصروعين، فقد نقل العهد الجديد مثلها عن الحواريين و رسل المسيح عليه السلام بل عن عامة أتباعه الصالحين، و فيما يلي ذكر ذلك:

جاء في سفر أعمال الرسل (3 / 2 ـ 8):

" و كان رجل أعرج من بطن أمه يُحْمَل، كانوا يضعونه كل يوم عند باب الهيكل الذي يقال له الجميل ليسأل صدقة من الذين يدخلون الهيكل. فهذا لما رأى بطرس و يوحنا مزمعين أن يدخلا الهيكل سأل ليأخذ صدقة. فتفرس فيه بطرس مع يوحنا و قال أنظر إلينا. فلاحظهما منتظرا أن يأخذ منهما شيئا. فقال بطرس ليس لي فضة و لا ذهب و لكن الذي لي فإياه أعطيك. باسم يسوع المسيح الناصري قم و امش. و أمسكه بيده اليمنى و أقامه، ففي الحال تشددت رجلاه و كعباه فوثب و وقف و صار يمشي و دخل معهما إلى الهيكل و هو يمشي و يطفر و يسبح الله "

ـ و جاء فيه أيضا (8 / 4 ـ 8):

" فانحدر فيليبس إلى مدينة من السامرة و كان يكرز لهم بالمسيح و كان الجموع يصغون بنفس واحدة إلى ما يقوله فيليبس عند استماعهم و نظرهم الآيات التي صنعها. لأن كثيرين من الذين بهم أرواح نجسة كانت تخرج صارخة بصوت عظيم. و كثيرون من المفلوجين و العرج شفوا، فكان فرح عظيم في تلك المدينة "

ـ و فيه كذلك (14 / 8 ـ 10):

" و كان يجلس في لسترة رجل عاجز الرجلين مقعد من بطن أمه و لم يمش قط. هذا سمع بولس يتكلم. فشخص إليه و إذ رأى أن له إيمانا ليشفى، قال بصوت عظيم: قم على رجليك منتصبا. فوثب و صار يمشي "

ـ و فيما يلي إعلان عام من السيد المسيح عليه السلام عن قدرة كل من يؤمن حقا على إظهار أكبر المعجزات، جاء في إنجيل يوحنا (14 / 12):

" الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أعملها يعملها هو أيضا و يعمل أعظم منها "

و مثله قول المسيح عليه السلام أيضا لتلاميذه، لما دهشوا و تعجبوا من يبس شجرة التين فور دعاء المسيح عليها، فقال لهم:

" الحق أقول لكم: إن كان لكم إيمان و لا تشكون، فلا تفعلون أمر التينة فقط، بل إن قلتم لهذا الجبل انتقل و انطرح من البحر فيكون. و كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه " إنجيل متى: 21 / 21 ـ 22.


قلت : فقد صار واضحا أن ظهور الخوارق و المعجزات، مهما كان شأنها عظيما، على يد شخص، لا يصلح بحد ذاته أن يعتبر مؤشرا على ألوهية هذا الشخص و إلا لوجب القول بألوهية كل الأنبياء السابقين و الحواريين و تلاميذ المسيح أيضا!!

و قد يقال : إن تلك المعجزات التي صدرت عن الأنبياء ممن سبق المسيح عليه السلام أو عن تلاميذ المسيح، لم تكن من فعلهم أنفسه بل كانت من أفعال الله تعالى الذي أظهرها على أيديهم، أما معجزات المسيح فكانت من فعله بنفسه، لذا كانت دليلا على ألوهيته!

و للإجابة على هذا نحيل القارئ إلى القسم التاسع من الفصل الأول الذي ذكرنا فيه شواهد من الأناجيل تفيد أن المعجزات التي كان يصنعها المسيح أيضا، لم يكن يفعلها بقوته الذاتية المستقلة بل كان يستمدها من الله و يفعلها بقوة الله، أي أن الفاعل الحقيقي لها كان الله سبحانه وتعالى الذي أظهرها علي يدي المسيح لتكون شاهدا له على صحة نبوته، و نكتفي هنا بإعادة نص واحد ظاهر بين في ذلك و هو ما قاله بطرس الحواري في خطابه لبني إسرائيل بعد رفع المسيح:

" فوقف بطرس مع الأحد عشر و رفع صوته و قال لهم:... أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات و عجائب و آيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضا تعلمون " سفر أعمال الرسل: (2 / 14 و 22).



3 ـ رد الاستدلال بقيام المسيح حيّاً من الأموات على ألوهيته :

قال بعض أساقفة و لاهوتيي النصارى: إن الأنبياء مهما كانوا عظماء، فإن أقصى ما فعلوه هو أنهم أحيوا بعض الموتى بإذن الله، أما أن يقوموا بأنفسهم أحياء بعد موتهم فهذا ما لم يقدروا عليه أبدا، بعكس المسيح الذي " لما كان إلـها قدر بقوته الإلـهية أن يقوم من الأموات و يعود إلى الحياة و يصعد إلى السماء ممجدا إلى يومنا هذا ".

و الجواب على هذا الدليل ـ مع التسليم جدلا بأنه عليه السلام مات فعلا على الصليب و دفن ثم قام حيا بعد موته بثلاث ليال كما يدعون [28] ـ هو أن نصوص العهد الجديد نفسها تشهد بأن المسيح لم يقم من الموت بقدرته الذاتية الإلـهية، بل إن الله تعالى هو الذي أحياه و أقامه من الأموات، و عندئذ فلا يبقى في قيامه حيا بعد موته أي دليل على ألوهيته، و إلا لكان جميع البشر آلهة لأن الله تعالى سيقيمهم أحياء من قبورهم يوم القيامة!! و قد تكرر التعبير بأن " الـلهُ أقام المسيحَ من الأموات " مرات عديدة، على لسان الحواري بطرس و لسان بولس، في سفر أعمال الرسل، و فيما يلي ذكر بعض الشواهد من ذلك:

ـ جاء في سفر أعمال الرسل في خطاب القديس بطرس الحواري لرجالٍ من بني إسرائيل:

" فيسوع هذا، أقامه الله، و نحن جميعا شهود لذلك. و إذ ارتفع بيمين الله [29] و أخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه و تسمعونه " أعمال الرسل: 2 / 32 ـ 33.

ـ و فيه أيضا في خطبة أخرى لبطرس الحواري :

" و لكن أنتم أنكرتم القدوس البار و طلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل. و رئيس الحيوة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات و نحن شهود لذلك " أعمال الرسل: 3 / 14 ـ 15. [30]

و جاء في رسالة بولس إلى أهل رومية (4 / 24 ـ 25) :

" نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات. الذي أسلم من أجل خطايانا و أقيم لأجل تبريرنا "

و في نفس الرسالة (8 / 18) :

"... و إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضا بروحه الساكن فيكم "

و في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس (6 / 14) :

"... و الله قد أقام الرب (اي المسيح) و سيقيمنا نحن أيضا بقوته "


قلت: فإقامة المسيح من الأموات مماثلة لإقامتنا من الأموات التي ستحصل يوم البعث و القيامة، فلا دلالة فيها أصلا على إلهية المسيح لا من قريب و لا من بعيد.


4 ـ رد الاستدلال بسجود بعض التلاميذ للمسيح على ألوهيته :

ذُكِر في الأناجيل أن المجوس الذين قدموا من المشرق و عرفوا من النجوم بولادة المسيح، ذهبوا إليه فلما رأوه في بيت لحم و هو في المهد، آمنوا به و سجدوا له، و كذلك جاء أن مريم المجدلية و مريم أم يعقوب و التلاميذ و الأعمى الذي شفاه المسيح [31] سجدوا له عليه السلام أيضا، و لم يرد أن عيسى عليه السلام منعهم من السجود له، فقال بعض أساقفة النصارى: إن هذا دليل واضح على ألوهية المسيح لأن السجود لا يكون إلا لله وحده، فلولا أن المسيح كان إلـها حقا لما رضي بسجود تلاميذه له.

و نقول في الإجابة عن هذه الشبهة: إن كل عالم بالكتاب المقدس
Bible يعرف أنه قد جاء في كثير من مواضعه ذكر سجود البشر للأنبياء و أحيانا سجود النبي للنبي بل حتى أحيانا سجود الأنبياء للبشر، مما يؤكد أنه في عرف الكتاب المقدس لا يعتبر السجود عبادة محضة خاصة بالله، بل هو أعم من ذلك، فقد يكون عبادة، و قد يكون مجرد خضوع و احترام للمسجود له، و بالتالي في هذه الحالة الأخيرة يجوز أداؤه لغير الله. و ليس هذا خاصا بالكتاب المقدس بل أثبت القرآن أيضا ذلك الأمر في قصصه عن الأمم السابقة، فكل مسلم يعرف أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، و يعرف قصة سجود أبوي يوسف و إخوته الأحد عشر ليوسف عليه السلام. لكن دعنا الآن نذكر الشواهد من الكتاب المقدس:

ـ في سفر التكوين (23 / 6): " فقام إبراهيم و سجد لشعب الأرض لبني حث " وفيه في نفس الإصحاح كذلك: " و سجد إبراهيم أمام شعب الأرض " 23 / 12.

ـ و في سفر التكوين (33 / 3 ـ 7): أن يعقوب عليه السلام، سجد و نساؤه و أولاده لعيسو عندما التقوا به.

ـ و فيه أيضا (42 / 6 و 43 / 26 و 28): أن إخوة يوسف عليه السلام سجدوا له.

ـ و فيه أيضا (48 / 12): أن يوسف عليه السلام سجد أمام وجه أبيه.

ـ و في سفر الخروج (18 / 7): أن موسى عليه السلام خرج لاستقبال حميه و سجد و قبله.

ـ و في سفر صموئيل الأول (24 / 8): أن داود عليه السلام : " نادى وراء شاول قائلا يا سيدي الملك، فلما التفت شاول إلى وراءه، خر داود على وجهه إلى الأرض و سجد ".

ـ و في سفر صموئيل الأول أيضا (25 / 23 ـ 24) ما نصه:

" و لما رأت أبيجايل داود أسرعت و نزلت عن الحمار و سقطت أمام داود على وجهها و سجدت إلى الأرض و سقطت على نعليه و قالت: علي أنا يا سيدي هذا الذنب و دع أمتك تتكلم... "

ـ و في سفر الملوك الأول (1 / 16): " فخرت بششبع و سجدت للملك (داود) ".

ـ و في سفر الملوك الأول أيضا (1 / 22 ـ 23) ما نصه: " و بينما هي مكلمة إذا ناثان النبي داخل. فأخبروا الملك (داود) قائلين هو ذا ناثان النبي. فدخل إلى أمام الملك (داود) و سجد للملك على وجهه إلى الأرض ".

ـ و في سفر الملوك الثاني (12 / 5): أن بني الأنبياء سجدوا للنبي إيلياء عليه السلام لما ظهرت منه المعجزة.

و الشواهد على ذلك كثيرة نكتفي بما ذكرناه.

و بهذا نكون قد انتهينا من تفنيد جميع الشبهات و الأدلة من الإنجيل التي تشبث بها الذين غلوا في دينهم و ألهوا نبيهم المسيح عليه السلام، سواء من كلماته أو من أفعاله و أحواله، و ذلك باعتمادنا على نصوص الأناجيل و الكتاب المقدس نفسها لا غير، و نهيب بكل منصف أن يترك التعصب جانبا و يسمع لنداء الله تعالى إذ يقول:

" ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون. قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا و الله هو السميع العليم؟. قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيراً و ضلوا عن سواء السبيل " المائدة / 75 ـ 77. صدق الله العظيم.

و ننتقل الآن للفصل الأخير الذي نثبت فيه نفي إلـهية المسيح بالاستناد لأقوال القديسين الكبيرين: بولس و يوحنا، ثم نرد على شبهات المؤلهين للمسيح من أقوال ذينك القديسين، و الله الموفق.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] كما جاء مثلا في أعمال الرسل:13/6 أن بولس قال للساحر الضليل: " أيها الممتلىء كل خبث و كل غش يا ابن إبليس، يا عدو كل بر، ألا تزال تفسد كل سبل الله المستقيمة؟ ".

[2] رواه السيوطي في الجامع الصغير عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، و عزاه إلى أبي القاسم بن حيدر في مشيخته، و رمز له بالحسن. (الجامع الصغير: ج1 / ص 110).

[3] من الجدير بالذكر أن الله تعالى ذكر عن اليهود و النصارى اعتبارهم أنفسهم أبناء الله و أحباؤه فرد عليهم هذا الغرور الباطل، دون أن يناقشهم في موضوع عبارة أبناء الله لأنه من الواضح أن مقصودهم منها معنى مجازي، فقال:"و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و لله ملك السموات والأرض و ما بينهما و إليه المصير" المائدة/ 17

[4] كما جاء مثلا في إنجيل يوحنا: 1/14 و 18، و 3 / 16.

[5] متى: 6 / 9.

[6] هذا الشاهد و الذي قبله منقول بلفظ الترجمة الرهبانية اليسوعية للكتاب المقدس، بيروت، 1989.

[7] بالاستفادة من كتاب الإمام أبي حامد الغزالي: الرد الجميل لإلـهية عيسى بصريح الإنجيل، بتحقيق الد. محمد الشرقاوي، القاهرة، ص 102 ـ104 مع تصرف كبـير.

[8] أي أنه يدعو أيضا للذين سيؤمنون به في المستقبل بواسطة دعوة و كلام الحواريين و المبشرين.

[9] المصدر السابق، ص 105.

[10] صحيح البخاري: 81 ـ كتاب الرقاق / 38 ـ باب التواضع (ج 7 / ص 190).

[11] هذه الجملة وردت في إنجيل يوحنا:10/ 38، و تكررت ثانية فيه بعبارة: " صدقوني أني في الآب و الآب فيَّ " يوحنا: 14 / 11. و استدلالهم بها ظاهر لا يحتاج لتوضيح.

[12] راجع الصفحات من 69 إلى 76 من الفصل الأول.

[13] مستفاد من كتاب " إظهار الحق " للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي: ج 3 / ص 759.

[14] إنجيل يوحنا: 3 / 13.

[15] تفسير الكتاب المقدس، تأليف جماعة من اللاهوتيين برئاسة الدكتور فرانسس دافيد سن. بيروت، دار منشورات النفير، 1988. ج 5 / ص 242.

[16] المرجع السابق: ج 5 / ص 242.

[17] من الترجمة العربية الجديدة للإنجيل، نشر جمعيات الكتاب المقدس المتحدة، بيروت 1988.

[18] أي ظهور حقيقة ثالثة منه و هي المسيح الإله ـ الإنسان، المركب من لاهوت و ناسوت الموصوف بجميع ما يجب لكل واحد منهما من حيث هو إله أو إنسان، المغاير لكل واحد من الحقيقتين!.

[19] مستفاد من كتاب: الرد الجميل لإلـهية عيسى بصريح الإنجيل، للإمام الغزالي: ص 158 ـ 161، بتصرف و اختصار كثير.

[20] أخرج الترمذي عن أبي هريرة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " متى كنتَ أو كُتبتَ نبيا؟ " قال: " كنت نبيا و آدم بين الروح و الجسد ". و قال الترمذي: حسن صحيح و رواه الحاكم في مستدركه و صححه أيضا. و رواه الطبراني أيضا عن ابن عباس.

[21] لوقا: 20 / 41 ـ 44، و متى: 22 / 41 ـ 45، و مرقس: 12 / 35 ـ 37. و اللفظ المذكور للوقا و هو منقول عن الترجمة العربية الجديدة للعهد الجديد، نشر جمعيات الكتاب المقدس المتحدة، بيروت 1988.

[22] متى: 9 / 5، و مرقس: 2 / 10.

[23] كتاب سوسنة سليمان: ص 153.

[24] راجع الصفحة 129 ثم الصفحات 181 ـ 189 القادمة من هذا الكتاب التي فصلنا فيها الموضوع كاملا.

[25] راجع الصفحة 107 من هذا الكتاب.

[26] انظر العهد القديم: سفر الخروج: الإصحاح 7 / الفقرات: 8 ـ13.

[27] انظر العهد القديم: سفر الملوك الأول: الإصحاح 17 / الفقرات: 17 ـ 23.

[28] نكرر الملاحظة التي سبق و قلناها و هي أننا إنما نحاجج النصارى بما في كتبهم التي يعتقدون إلهاميتها كلها، بغض النظر عن أننا نوافق على كل ما ذكر فيها أو لا، إذ من المعلوم أن القرآن الكريم أوضح الحق في شأن السيد المسيح عندما أكد أنه {و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم...... بل رفعه الله إليه}.

[29] عبارة الترجمة العربية الجديدة لجمعيات الكتاب المقدس المتحدة (1988) اوضح هنا حيث تقول: " فيسوع هذا أقامه الله و نحن كلنا شهود على ذلك، فلما رفعه الله بيمينه إلى السماء نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه علينا و هذا ما تشاهدون و تسمعون ".

[30] و انظر أيضا تكرر هذه العبارة في أعمال الرسل: 4 / 10 و 10 / 40 و 13 / 30 و 17 / 31.

[31] متى: 2 / 2 و 11، و متى: 28 / 9، و لوقا: 24 / 52، و يوحنا: 9 / 38.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق