الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

10- ولاية المرأة



10- ولاية المرأة


( أ ) الرسل من الرجال

هناك سؤال يطرحه بعض العلمانيين والعلمانيات: لماذا كان كل الرسل والأنبياء من الرجال ولم تكن بينهم "نبية" أو رسول من النساء؟ أليس هذا انحيازًا للرجال ضد النساء؟

ونرد على هؤلاء من عِدَّة أوجه:
إن اختصاص الرجال بالرسالات السماوية كان رحمة ولطفًا من الله - تعالى - بالنساء وليس ظلمًا لهن أو انحيازًا ضدهن.. ويتَّضح ذلك بالرجوع إلى سِيَر وتاريخ الرسل والأنبياء[1]. فقد لقوا جميعًا - عليهم السلام - كل أنواع الأذى والاضطهاد والتكذيب والنفى والتشريد والقتل أيضًا، وما كانت المرأة لتحتمل شيئًا من ذلك. وعلى سبيل المثال: قتل اليهود - لعنهم الله - كثيرًا من الأنبياء والأولياء والصالحين.. ألم يقتلوا يحيى وأباه زكريا - على نبينا وعليهما الصلاة والسلام؟ ألم يُلقِ الطاغية النمرود بأبينا إبراهيم - عليه السلام - في النار؟ وبعد أن نجَّاه الله -تعالى - منها نفاه من العراق إلى الشام؟

وكان الأنبياء والرسل هم أشدّ الناس ابتلاء بالمِحَن والمصائب في الدنيا كما هو معلوم لكل من طالع قصصهم - عليهم السلام.. ألم يُبتلَ يوسف - عليه السلام - بأن رماه إخوته صغيرًا فى جُبٍّ بالصحراء ثم بالرق ثم بالسجن بضع سنين؟ ألم يُبتلَ أيوب - عليه السلام - بالمرض وفقد الأولاد والمال سنين؟

ألم يُبْتَلَ يعقوب - عليه السلام - بالعمى وفقد الولد يوسف ثم بنيامين سنين؟ ألم يبتلَ الحبيب محمد بالاضطهاد والتكذيب ومحاولات الاغتيال الواحدة تلو الأخرى ومات كل أولاده وبناته فى حياته - باستثناء فاطمة - ثم اضطر إلى الهجرة من أحب البلاد إليه مكة؟ فهل كانت المرأة ذلك المخلوق الرقيق الضعيف لتطيق شيئًا من تلك الأهوال والابتلاءات؟!

وقد أعفى الله - تعالى - المرأة من المسؤوليات والتَّبِعات الثقيلة للنبوة والرسالة بسبب طبيعة تكوينها التي لا يجادل بشأنها عاقل فضلاً عن عالم أو منصف ولو كان من غير المسلمين.

فالمرأة تحيض وقد تمتدُّ فترة الحيض ونزول الدم وما يصاحبه من توتر نفسى وعصبى وضعف بدنى إلى أسبوعين.. وهناك آلام الحمل تسعة أشهر ثم آلام الولادة وفترة النفاس التى قد تتجاوز شهرًا ثم الإرضاع ورعاية الوليد عامين حتى الفطام.. فهل من الحكمة أن تكون المرأة حاملة لأخطر وأهم المسؤوليات - وهى تبليغ رسالات الله - في ظل تلك العوارض التى تعتريها كل تلك الأوقات؟!!

إن آلام الحيض والحمل والولادة تُذهل كثيرًا من النساء عن أنفسهن، فهل يتصوَّر عاقل أن يعهد إليها بأية مسؤوليات خطيرة وهى على هذا الحال؟!! أليست كل الرحمة وكل العطف وكل الشفقة فى إعفائها من هذه التبعات التى - أشفقت وخافت منها - وهربت من تحمُّلها حتى الجبال فى الأرض والنجوم فى السماء؟!!

وينسى أولئك الذين يتباكون على النساء أو يتناسون أمرًا مهمًّا هو أن المرأة وإن لم تكن رسولاً أو نبيًّا فإنها "أم" أو "زوجة" أو "بنت" أو "أخت" أو "خالة" أو "عمة" أو "جدة" لكل الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام أجمعين.

أليست "أم النبي" امرأة؟!!
ألا يكفى المرأة شرفًا أنها حملت الأنبياء والرسل فى بطنها ثم ولدتهم وأرضعتهم ورعتهم حتى شبُّوا عن الطوق وحملوا تلك الرسالات العُظمى؟! أليس أولادها قِطَع منها وبالتالي فإن شرفهم ومنزلتهم الرفيعة هى شرف ومنزلة عليا وتكريم لا مزيد عليه لها بدورها؟!

وعلى سبيل المثال لا الحصر، ألم تُشرف أُمُنا حواء بكونها زوجًا لنبى رسول هو آدم - عليه السلام - ثم هي أيضًا جدّة لجميع الأنبياء - عليهم السلام؟!

أو لم تُشرف السيدة "سارة" بكونها زوجًا لأبى الأنبياء إبراهيم ثم أمًّا لإسحاق وجدة ليعقوب ويوسف وكل أنبياء بنى إسرائيل  عليهم السلام؟!!

أليس شرفًا للسيدة "هاجر" أنها قرينة أبينا إبراهيم، ثم أصبحت أمًّا لإسماعيل، وهى جدة سيد البشر وخاتم الأنبياء والمرسلين حبيبنا محمد عليه وعلى جميع الأنبياء أزكى الصلاة والسلام؟!! أليس شرفًا للسيدة "مريم" أنها صِدِّيقة اصطفاها الله - تعالى - وذكرها في كتبه المقدسة ثم هى أم عيسى وبنت خالة يحيى - عليهم السلام؟

أليس الشرف كل الشرف للسيدة "خديجة بنت خويلد" أنها زوجة الرسول فى الدنيا والآخرة، وأنها كانت أول من أسلم وظلت أيامًا أو أسابيع هي وبناتها "كل الأمة" قبل إسلام الرجال بعدهن؟ ألم تقم - عليها السلام - بدور عظيم هام فى دعم النبى والزوج بنفسها ومالها وقبيلتها على نحو يعجز عن مثله ملايين الرجال؟!

وكذلك تشرَّفت باقى زوجاته - عليه السلام - بالاقتران به ثم نقل علمه وحديثه الشريف إلى الأمة جيلاً بعد جيل، كما شرفهن الله بزواج النبى فى الجنة أيضًا، وجعلهن أمهات للمؤمنين إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.. أليس تشريفًا لعائشة أنها زوج محمد وابنة الصديق وأنها روت عن زوجها العظيم ألفى حديث، وكان أكابر الصحابة والتابعين من الرجال يتعلَّمون منها ما يجهله ملايين الرجال؟!! وكذلك كانت حفصة زوجًا لسيد البشر - عليه السلام - وابنة للفاروق عمر - رضي الله عن الجميع - وكانت صفية بنت حُيى زوجًا للنبى وابنةحفيدة – لهارون وعمها موسى - عليهم الصلاة والسلام أجمعين[2].

ولو شئنا أن نمضى فى ذكر من شرَّفهن الله - تعالى - بالإسلام لما كفانا هذا الكتاب - بل كتب مُطوَّلة - لكننا نكتفى بتلك الأمثلة فإن فيها كفاية وعبرة لمن أراد الحق والإنصاف.

(ب) إمامة المرأة 

لماذا يمنع الإسلام المرأة من الإمامة فى الصلاة؟
نرد أولاً بأن الإسلام العظيم قد أباح للمرأة أن تكون إمامًا للنساء والأطفال الصغار الذين لم يبلغوا الحلم - سن الاحتلام - في المنزل وكل مكان آخر لا يوجد فيه رجال. فيجوز لها أن تكون إمامًا لهن فى الصلاة وأن تعظهن وتعلمهن أمور دينهن، بل يجب عليها ذلك إن كانت من أهل العلم والفقه فى الإسلام، وهذا كله مما لا خلاف عليه.

لكن إمامة المرأة للرجال تحول دونها محاذير لا يُجادل عاقل منصف بشأنها.

منها أن صوت المرأة الناعم الرخيم من شأنه حتمًا أن يثير بعض الرجال، ومعلوم أن الإمام يرفع صوته فى التكبير والتسليم فى كل الصلوات، بالإضافة إلى الجهر بالقراءة فى أوَّل ركعتين من الصلوات الجهرية وهى الفجر والمغرب والعشاء. ومن شأن صوتها أن يفسد حتمًا الجو الروحانى والخشوع اللازم للصلاة بالنسبة لبعض الرجال المأمومين إن لم يكن أكثرهم.

ولمَن يعترض على هذا أو لا يفهمه نذَكِّر الجميع ببعض الحقائق فى الديانات والمذاهب الأخرى غير الإسلامية:
تقول الموسوعة اليهودية: "صوت المرأة يعتبر إثارة جنسية تمامًا مثل شعرها وقدميها", وتقول ذات الموسوعة أيضًا: "الخوف من المرأة بإعتبارها مصدرًا للغواية والإغراء.. ربما بسبب الانفلات الكبير في الأمور الجنسية بين عامة الشعب". ولهذا نجد كل حاخامات اليهود من الرجال، ولم يحدث مطلقًا أن إمرأة قادت صلاة فى معبد يهودى على مدار التاريخ.

وليس الحال بأفضل من هذا فى كنائس النصارى على الإطلاق.. يقول بولس: "ليصمت نساؤكم فى الكنائس؛ لأنه ليس مسموحًا أن يتكلمن، بل يخضعن كما يقول الناموس" [كورنثوس11:11].ويقول بولس أيضًا بكل وضوح: "ولكن إذا رغبن فى تعلم شيئ فليسألن أزواجهن فى البيت، لأنه عار على المرأة أن تتكلم فى الجماعة". [كونثوس 25:24]. ولم يحدث أبدًا أن امرأة قادت الصلوات فى الفاتيكان، ومنصب البابا هناك يتولاَّه رجل على مدار تاريخه، وذات الأمر بالنسبة للمذاهب والطوائف النصرانية كلها.

وحتى في العقائد والمذاهب غير السماوية، نجد أن منصب "الدلاى لاما" مثلاً لم تتولاَّه امرأة أبدًا، وذات الأمر فى البوذية والهندوكية والزرادشتية، وكل طقوس هؤلاء وغيرهم يترأَّسها دائمًا رجل.. فلماذا يتجاهل الحاقدون كل هذه الحقائق فى كل الديانات والمذاهب الأخرى، ويحاولون رشق الإسلام وحده بسهامهم الطائشة الخبيثة؟!!

وهناك أسباب أخرى غاية فى الحكمة والوجاهة لمنع إمامة المرأة للرجال:
فكل مَن يعرف مبادئ الصلاة فى الإسلام وكيفية أدائها، يعلم أن الإمام ينحنى للركوع قبل المأمومين كما أن الرجال يقفون فى الصفوف الأمامية خلف الإمام مباشرة.. فإذا كان الإمام امرأة فإنها سوف تنحنى للركوع أولاً حتمًا قبل المأمومين الرجال خلفها.. وإذا استطاع بعض الرجال غض بصره، فإن آخرين سوف يرون تفاصيل أرداف المرأة - الإمام - وهى تنحنى للركوع، فهل هذه الإثارة برؤية تفاصيل أردافها - تتناسب مع جو الخشوع والروحانية اللازمة والمفترضة فى الصلاة التى هى مناجاة وصلة بين العبد وربه؟!! إن أى منصف ولو كان من غير المسلمين سوف يدرك حتمًا أن الإسلام العظيم كان حكيمًا وأصاب كل الحق بمنع مثل هذه الفتنة فى المساجد.

ثم إن الإمام والمأمومين جميعًا يحصلون على ذات الثواب من أداء الصلاة فى جماعة،لكن الإمام هو أثقلهم مسؤولية، لأنه يتحمل تبعات أى خطأ أو سهو يقع فى الصلاة. فإذا كان الإسلام قد أعفى المرأة من هذه التبعات الثقيلة فإنه يكون قد رحمها وترفق بها، وحرص على أن تنال أجرها كاملاً بالصلاة مع المأمومين، وتنجو بذلك من إثم الخطأ الذى تحمله الرجل الإمام وحده.

ثم ماذا يحدث لو سمحنا للمرأة بأن تكون إمامًا للرجال فى الصلاة وخطبة الجمعة فى المسجد ثم فاجأها دم الحيض أوالولادة وهى على المنبر أو فى المحراب تصلى بالناس؟!

ألن تفسد صلاة الجميع فى هذه الحالة؟!

ولنا أن نتخيَّل مدى الفوضى والاضطراب واللغو والضوضاء الناتجة عن بدء صراخ الإمام - المرأة - حين تدهمها آلام بدء الولادة - الطلق - أو سيل من دماء الحيض الذى لا يمكن لها أن تسيطر عليه أو أن تمنعه أو أن تتوقَّع وقتًا محددًا لمجيئه!! وهذا وحده سبب كاف لإعفائها من الإمامة لو كانوا يعقلون.

(ج) حدود الولاية


أثار الخصوم شبهة خبيثة حول حديث شريف صحيح قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لن يفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة", وقد رواه جماهير أهل السنن ومنهم البخارى والترمذى والنسائى وأحمد بن حنبل - رضي الله عنهم أجمعين - وبالإضافة إلى الرواية التى ذكرناها هناك روايات أخرى لذات الحديث منها: "لن يُفلح قوم تملكهم امرأة" وأيضًا: "لن يُفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة"، ولا سبيل إذًا إلى التشكيك فى صحة الحديث من حيث الإسناد.

لكن البعض يحاول أن يقصر معناه على المناسبة التى قاله فيها النبى - عليه الصلاة والسلام - وهى أنه أخبر بذلك عن مملكة فارس عندما بلغه أنهم وَلَّوا عليهم "بوران" بنت كسرى بعد هلاك أبيها. وبالفعل يُعتبر هذا الحديث من الأدلة على نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ لم تمضِ سنوات على قوله هذا حتى انهارت مملكة الفرس، وذهب مُلكهم إلى غير رجعة. ومن هنا يحاول البعض أن يقصر مدلول الحديث ويحصره فقط فى إطار كونه مجرد نبوءة سياسية تحققت بالفعل، لكنه - كما يقولون - ليس حكمًا تشريعيًا عامًّا يحول دون تولى المرأة المناصب العامة[3]. والولاية لغة هى النُصرة والسلطان كما يقول الأصفهانى[4] وهى فى هذا الحديث تعنى تولي امرأة للسلطة في الدولة.

ونحن لا نتفق مع أصحاب هذا الرأى فى تضييق معنى الحديث وقصره على نبوءة بزوال مُلَّك الفرس. فألفاظ الحديث الشريف عامة وواضحة وقاطعة الدلالة. والقاعدة الأصولية المتفق عليها هى أن العبرة بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب. وكل من يعرف لغة العرب يدرك على الفور أن معنى "لن يفلح قوم تملكهم امرأة", أو "لن يفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة" هو نفى للفلاح والنجاح عن أية جماعة من الناس ترأسها امرأة سواء كانوا الفرس أم غيرهم، كقولك: "لن يدخل الجنَّة مَن لا يؤمن بالله" إذا أخبرك شخص عن مستشرق أجنبي أنه ملحد مثلاً، فهذا القول يشمل هذا الشخص وغيره من الكافرين. ثم إن التخصيص أو تقييد الحكم يحتاج إلى دليل يصرف النص عن العموم. ولا دليل هنا على قصر الحكم على الفرس سوى اجتهاد أصحاب هذا القول برأيهم، ولا رأى ولا قول لأحد - كائنًا مَن كان - إذا صح الحديث ووضح معناه كهذا الحديث الذى يحظر صراحة تولى المرأة رئاسة الدولة. ونُذكِّر هؤلاءوأنفسنا - بأن الله ورسوله أعلم، وأنه لا ينبغى أن نُهدر نصًّا أو نحاول صرفه عَن معناه العام والقاطع والصريح لمجرد الرد على الخصوم بما لا يصادم عقولهم.

وجماهير فقهاء السلف تأخذ بمنطوق ومفهوم هذا الحديث الشريف، فيذهبون إلى اشتراط الذكورة فيمَن يتولى الخلافة أو الإمامة العظمى لدار الإسلام، لكنهم اختلفوا فيما عداها من الولايات الفرعية والجزئية ومنها تولى القضاء.

يقول ابن رشد - الحفيد - أن العلماء: "اختلفوا في اشتراط الذكورة بالنسبة للقاضى أيضًا..وقال الجمهور: هى - أي الذكورة - شرط فى صحة الحكم. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيًا فى الأموال، أي: القضايا المالية والتجارية.

وقال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكمًا على الإطلاق فى كل شيء!! فمَن رد قضاء المرأة - أي: رفض توليها القضاء - شَبَّهه بالإمامة الكبرى - التى لا يجوز للمرأة توليها - ومَن أجاز حكمها فى الأموال فتشبيهًا - قياسًا - على جواز شهادتها فى الأموال، ومَن رأى حكمها نافذًا فى كل شىء - الطبرى - قال أن الأصل هو أن كل مَن يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ماخصَّصه الإجماع من عدم جواز توليها الإمامة الكبرى" انتهى[5].

وهكذا يلمس الباحث المنصف ثراء وتنوع آراء كبار علماء السلف - رضوان الله عليهم - ومنهم مَن جاء بآراء لصالح المرأة لعلها أفضل وأكثر إنصافًا لها من آراء مفكرى الغرب وفلاسفته الذين احتقروا المرأة وكانوا يتنازعون الرأى حول ما إذا كان لها روح أم لا إلى عهد قريب!!

ألم يكن العظماء من علمائنا أكثر تحضُّرًا وتحرُّرًا من أولئك الذين كانوا يرون المرأة شرًّا خلقه الله في العالم وأفضل وأسلم ما يكون الرجل أبعد ما يكون عنها؟!!

أليس أبو حنيفة - رضي الله عنه - أكثر احترامًا لها من فلاسفة اليونان؛ حيث أجازلها تولى القضاء فى الشؤون المالية والتجارية، بينما رأها اليونان مجرد آلة للشهوات والإنجاب ولا تصلح لشىء سوى ذاك؟!!

ألم يكن الإمام الطبرى  رضي الله عنه - وإن كان رأيه مرجوحًا- أعظم تقديرًا للمرأة حين أفتى بجواز أن تكون "حاكمًا على الإطلاق فى كل شيء"؟!

أيهما أنصف المرأة: الطبري الذي أجاز لها الحكم بإطلاق، أم فلاسفة الرومان الذين قالوا: "قيد المرأة لا يُنزع ونيرها لا يُرفع"؟!!

ولا ينفى ما سبق تمتع المرأة بالولاية على بيتها وأولادها بنص الحديث الصحيح: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" والذى جاء فيه: "والمرأة راعية على بيت بعلها - زوجها - وولده وهى مسئولة عنهم" رواه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل.

ولو كان الخصوم يعقلون لأدركوا فورًا أن الإسلام قد عهد إلى المرأة بأعظم الولايات وأهم وأخطر المسؤوليات، وهى تنشئة وتربية ورعاية الأطفال الذين هم المستقبل وهم أمل الأمة. فهل يظن عاقل أن اليوم أهم من الغد؟!!

( د ) الحق فى المشاركة السياسية


ونرى أنه يجوز للمرأة المشاركة فى الشئون العامة ومنها الشئون السياسية باستثناء توليها الإمامة العظمى - رئاسة الدولة - إذ لا اجتهاد مع النص الصريح. وعندنادليل على حق المشاركة السياسية للمرأة من الأمر الإلهى للرسول بمبايعة النساء، ثم ما أوردته كتب السيرة والسنن من أحاديث متواترة لا خلاف عليها، وكلها تثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بايع النساء كما بايع الرجال.

ولئن قال البعض أن البيعة شأن دينى محض، فالرد عليه بأن الإسلام ينظم كل نواحى الحياة وليست العبادات فقط، بل هو عبادات ومعاملات، وهو ينظم الشئون السياسية كما ينظم الصلاة والزكاة والبيوع وغيرها من العقود.

وإذا كان لهن حق البيعة كما بايع الرجال، فلهن - من باب أولى - حق الانتخاب والإدلاء بالرأي كالرجال، فليست الأمور السياسية - وهى دنيوية - بأخطر ولا أهم من الدين، بل إن حسن السياسة هو ذاته من الإسلام.

قال الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة: 12].

والثابت من كل كتب السيرة النبوية أن ثلاث نساء - أو اثنتين على الأقل -كانتا من بين الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيعة العقبة الكبرى - الثانية- فى السنة الثالثة عشرة من البعثة قبل الهجرة الشريفة إلى يثرب بقليل. والمرأتان هما الصحابيتان الجليلتان نُسيبة بنت كعب - أم عمارة - من بنى النجار، وأسماء بنت عمرو - أم منيع - من بنى سلمة[6]. وبيعة العقبة هذه تعتبر أول مؤتمر عقدته الجمعية التأسيسية الأولى التى مَهَّدت لقيام الدولة الإسلامية فى المدينة المنورة يثرب.

وقد أورد الإمام البخاري بيعة النساء فى باب يحمل ذات الاسم, وفيه عن عائشة - رضي الله عنها - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع النساء بالكلام بالآية السابقةرقم 12 من سورة الممتحنة – وقالت: "وما مسَّت يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة إلا امرأة يملكها". وأورد البخاري أيضًا حديثًا آخر يثبت بيعة النساء عن أم عطية الأنصارية - رضي الله عنها - وروى حديث البيعة أيضًا النسائى والترمذى وأحمد وابن ماجه. وكانت مبايعة على التوحيد ومكارم الأخلاق وتجنب الفواحش والكبائر والطاعة فى المعروف، إلا أنها كانت تتضمَّن أيضًا إقامة الدولة الإسلامية علي هذه الأسس، وطاعة الرسول - عليه السلام - كنبي وأيضًا كحاكم للدولة الوليدة التى تأسست فى يثرب بعد الهجرة. فللبيعة جانبها السياسى أيضاً، وقد شاركن فيها كما شارك الرجال.

وعندنا دليل آخر واضح تمامًا أن للمرأة حق فى الشورى، وهل المشاركة السياسية إلا إبداء آراء واقتراحات يعمل بها الحكام إن كانت صائبة وتحقق مصالح البلاد والعباد؟!!

وبهذا الفهم فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استشار زوجته السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - في صلح الحديبية عندما اعترض أصحابه على شروط الصلح التى اعتبروها ظالمة للمسلمين. وظنَّ بعضهم - كعمر وغيره - أنها تعطى قريشًا أكثر، وفيها إجحاف بالمسلمين. والذي ثبت للجميع بعد ذلك أنها - هدنة الحديبية - كانت فتحًا عظيمًا لا يقل أهمية فى تاريخ الإسلام عن فتح مكة ذاته.

وما نلقى الضوء عليه هنا هو ما يتعلق بموضوعنا، وهو أن النبى - عليه السلام - دخل إلى خيمته يشكو إلى زوجته ما لقى من الناس وعدم موافقتهم على الصلح، ورفضهم التحلل من الإحرام بنحر - ذبح - الهدى وحلق شعر الرأس تمهيدًا للعودة دون أداء العمرة ذلك العام طبقًا للاتفاق.

وانظر إلى عظمة وحكمة الرأى الذى أبدته أم المؤمنين - أم سلمة - رضى الله عنها - فقد قالت لزوجها: "يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر ذبائحك، وتدعو حالقك فيحلق رأسك". وفعل - عليه السلام - ما أشارت به، فلما رآه الصحابة ينحر هديه ويحلق شعر رأسه -أي تحلل من الإحرام- أفاقوا جميعًا مما كانوا فيه من غضب وتمرُّد، وقاموا فورًا يذبحون هديهم ويحلقون رؤوسهم اقتداء بالنبى  صلى الله عليه وسلم  حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا من شدة الغم[7].

وبهذا المشورة الحكيمة والرأى الصائب، أطفأ الله فتنة هو - تعالى - وحده الذي يعلم عواقبها فى وقت بالغ الصعوبة والحرج من عمر الإسلام.

ومن هذه الواقعة نستدل على أن للنساء حق المشاركة فى مجالس الشورى وغيرها من المجالس النيابية.

ويمكن تخصيص قاعة للأعضاء من النساء منفصلة تمامًا عن قاعة الرجال، وتكفل وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة تمكينهن من الاطلاع على المناقشات والإدلاء بالرأى - والتصويت - بدون اختلاط بالرجال أو التعرُّض للفتن، وذات الأمر فى الأدلاء بالأصوات فى كل انتخابات عامة.

والأمر في ذلك يشبه الحال فى المساجد والمدارس تمامًا؛ حيث توجد أماكن مخصصة للنساء فقط فى المساجد، وكذلك وسائل المواصلات الآن فى كثير من البلدان،ومدارس خاصة للبنات، فلماذا لا نُطَبِّق الأمر ذاته فى المجالس النيابية؟!!

ولا تعارض في هذا مع الحديث الشريف: "لن يفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة"؛ لأننا هنا بصدد "مشاركة" وليست انفرادًا بالولاية أو الإمامة الكبرى وهى الخلافة أو رئاسة الدولة. إنهن يقمن هنا بإبداء المشورة للحكام، ولا يحكمن بأنفسهن وحدهن، ومشورة السيدة أم سلمة للرسول - عليه الصلاة والسلام - في الحديبية وأخذه برأيها دليل قاطع لا يقبل إثبات العكس على حقهن فى إبداء الرأي، بل ووجوب الأخذ به إذا تبين للحاكم أنه أكثر صوابًا وحكمة من غيره من الآراء - والله تعالى أعلم.

ثم إن الأمر الإلهى للنبى - صلى الله عليه وسلم - بمشاورة أصحابه له صفة العموم فيشمل الرجال منهم والنساء. قال - تعالى -: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159]. وقال - تعالى - في سورة الشورى: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الشورى: 38]. ومعناها - كما قال المفسرون -: "وكان من شأنهم التشاور فى أمورهم لإقامة العدل فى مجتمعاتهم دون أن يستبدَّ بهم فردٌ أو قلة من الناس"[8] انتهى.

وإذا كان الله - تعالى - قد وضع الشورى بين فريضتين هما الصلاة والزكاة فهى فريضة بدورها، والصلاة والزكاة مفروضتان على الرجال والنساء معًا فكذلك الشورى،والسُّنَّة الفعلية أكدت هذا بدليل ما ذكرنا من مشاورة النبى - صلى الله عليه وسلم - لزوجته السيدة أم سلمة فى صلح الحديبية.

(هـ) أمان النساء


وهناك مكرُمة أخرى للنساء فى الإسلام يتجاهلها الخصوم، وهى أن الله ورسوله - عليه السلام - أجازا أمان المرأة وجوارها، وهو تصرفها في تأمين وضمان سلامة أحد الأعداء المحاربين لنا إن كان أمانها له سبب وجيه. فإذا أعطت المسلمة أمانًا لشخص من الأعداء فإنه يجب على جميع المسلمين فى كل مكان احترام أمانها وعدم المساس بالمستأمن المستجير، وعدم إيذائه بقول أو فعل. والأمان أو الجوار من مكارم الأخلاق التى سبق بها الإسلام كل الشرائع والقوانين فى العالم، وأساسه الشرعي قوله  تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة: 6]. ومعناها - كما ذكر المفسرون - أنه إذا طلب منك أحد الكفار أن تحميه وتُؤَمِّنه من اعتداء أحد عليه-تُجيره- فيجب عليك أن تُجيره وتحميه من أي تعرض أو إيذاء إلى أن يخرج من بلادنا ويصل إلى مكان يأمن فيه على نفسه وماله. ومن الواضح أن حق الجوار أو إعطاء الأمان هو تصرف سياسى أيضًا، وقد أجازهالنبي - عليه السلام - للمرأة، وبذلك يلتزم كل المسلمين رجالاً ونساءً باحترام جوارها وحماية المستجير بها.

وقد وضع البخارى بابًا عنوانه (أمان النساء وجوارهن) روى فيه قصة أم هانئ بنت أبى طالب التى أجارت أحد المشركين من بنى هبيرة عام الفتح، وحاول أخوها على بن أبى طالب - رضي الله عنه - قتله فدافعت عنه، وأسرعت تستنجد بالنبى - عليه السلام - ليكف عنهما عليًّا.

وبالفعل أيَّد الرسول - صلى الله عليه وسلم - موقفها ونصرها على أخيها، وقال  صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ". وثبت من السيرة العطرة كذلك أن السيدة زينب بنت النبى - صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها - أجارت زوجها العاص بن الربيع - وكان لم يسلم بعد - عندما هرب من مطاردة بعض المسلمين له واستجار بزوجته التى كانت قد انتقلت للعيش مع أبيها فى المدينة.

وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - جوار ابنته لزوجها المشرك واحترم المسلمون جميعًا هذا الجوار حتى انصرف أبو العاص إلى مكة، فَرَدَّ إلى الكُفَّارِ أموالهم ثم أعلن دخوله فى الإسلام[9].

ورغم كل هذا نقول بملء الفم أن بيوتهن خير لهن، وأولادهن أولى بجهودهن لو كن يعلمن. ويا لضيعة وبؤس مَن تكسب منصبًا مهما بلغ شأنه على حساب مستقبل أطفالها وصحتهم البدنية والنفسية التى يلحقها الدمار بسبب غياب الأم.

ويا لخيبة وخسارة مَن تكسب عرش ممالك الأرض كلها، ولكنها تخسر مملكتها الأصلية بيتها ودفء أحضان أطفالها وزوجها!!

وقد أثنى القرآن الكريم على "بلقيس" ملكة سبأ - وهى امرأة - لأنها كانت تُطَبِّق الشورى، فلا تتخذ قرارًا إلا بعد الرجوع إلى أهل الحِل والعقد - الخبراء والعلماء وأهل الفضل - ولم تنفرد بالحكم دون إرادة شعبها: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل: 32]. بينما ذمَّ القرآن الكريم فرعون - وهو رجل - لأنه كان طاغية مستبدًّا جبَّارًا في الأرض يحكم البلاد بالحديد والنار: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر: 29].

وقد تقدم أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أسند الولاية على السوق للشفَّاء بنت عبد الله،وهى ليست ولاية عظمى، بل هي ولاية فرعية صغيرة تتناسب مع إمكانيات المرأة وتكوينها وظروفها.

ولا يخفى أنه من العسير قبول ولاية المرأة على الجيش أو المخابرات مثلاً. فحتى في أكبر الدول الغربية لا يُسنِدون وزارة الدفاع إلى النساء لخطورة ذلك على الأمن القومى للبلاد.

إذ ماذا يكون الحل لو أن هجومًا نوويًّا مفاجئًا وقع من دولة معادية، وكانت السيدة "وزير الدفاع" أو السيدة رئيس البلاد فى غرفة العمليات بالمستشفى، لأن آلام الوضع قد داهمتها أثناء وقوع الهجوم المُعادى؟!!

لماذا المكابرة والجدال بالباطل، والكل يعلم تمامًا أن الولايات الكبرى لا تتناسب مع مَن تعانى آلام الحيض والولادة والنفاس ثم الإرضاع سنوات طوال تكون خلالها فى حالة نفسية وعصبية بل فى حالة ضعف عامٍّ لا يمكن إنكارها؟!!

وإذا كان هذا يُمثِّل خطرًا أكيدًا على أمن ومصالح البلاد، فإنه يُمثِّل أيضًا جهدًا مضنيًا، وأعباء لا طاقة للمرأة بها، خاصة إذا علمنا أن أى رئيس دولة أو مسئول عسكري أو أمنى يعمل عادة ما لا يقل عن 15 أو 16 ساعة يوميًا!!

أليست رحمة من الإسلام أن يعفيها من كل هذا العناء والبلاء؟!!


[1] انظر قصص الأنبياء لابن كثير، وقصص الأنبياء للثعلبي.
[2] راجع تراجم أمهات المؤمنين فى الطبقات الكبرى لابن سعد - الجزء الثامن - طبعة القاهرة.
[3] حقائق الإسلام فى مواجهة شبهات المشككين - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - مصر - ص 590 وما بعدها.
[4] الراغب الأصفهانى - المفردات فى غريب القرآن – طبعة دار التحرير - القاهرة 1991م.
[5] بداية المجتهد ونهاية المقتصد - القاضى محمد ابن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد - ص 747 - طبعة مكتبة الشروق الدولية - القاهرة - مصر.
[6] سيرة ابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير، وحياة الصحابة للكاندهلوى، وسير أعلام النبلاء للذهبي، وانظر: سيرة الرسول - للدكتور مصطفى مراد – ص 201 طبعة دار الفجر للتراث - مصر، وتراجم أصحاب بيعة العقبة فى كتاب: الاستيعاب لابن عبد البر.
[7] انظر ما جاء عن صلح الحديبية فى كتب السيرة المشار إليها سابقًا، والرحيق المختوم للمباركفورى.
[8] تفسير المنتخب - طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - مصر - ص 862. وانظر تفسير الآيتين الكريمتين عند ابن كثير والقرطبى والشوكانى والنسفى والطبرى والسعديوالرازي والبغوى وغيرهم.
[9] سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السيرة المشار إليها من قبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق