الجمعة، 27 نوفمبر 2015

هل تقتضي الفطرة الحكيمة السوية أن يكون للكون إله خالق؟


هل تقتضي الفطرة الحكيمة السوية أن يكون للكون إله خالق؟
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وفطره على الإيمان به جل شأنه، فدلالة الفطرة على وجود الإله الخالق أظهر من أن تحتاج إلى دليل، فالإنسان بفطرته يؤمن بربه، مصداقًا لقول رسول الله صل الله علية وسلم:

((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يُمجسانه)) [صحيح البخاري ومسلم].
ولهذا إذا ما وقع على أي إنسان في الدنيا شيء بغتة، وهذا الشيء مُهلك له، لكان يقول بلسانه: يا الله، أو يا رب. أو ما أشبه ذلك.
مما يدل على أن الغريزة الفطرية قد جُبلت على الإيمان بوجود الله عز وجل.([1])
فالله سبحانه وتعالى هو الإله الخالق للإنسان والحيوان والطير والجماد وكل شيء، وهو جل وعلا خالق هذا الكون بما فيه من أحداث وأسباب.

وعلينا أن نعلم:
أنه لا تناقض بين كون الشيء مخلوقًا وكون لحدوثه أسباب؛ لأن الله تعالى من سنته أن يخلق بالأسباب، ولأنه هو سبحانه وتعالى خالق تلك الأسباب وجاعلها أسبابًا.
ومما يُدلِّلُ على أن الفطرة الحكيمة، السوية النقية تقتضي أن يكون للكون إله خالق:
هذه النماذج الحية التي قد تعرفت على خالقها بغريزتها الفطرية، التي جُبلت على الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى.

1- قد سُئل أعرابي: ما الدليل على وجود الرب تعالى.
فقال: يا سبحان الله، إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير
؟!


إن كلمات هذا الأعرابي السوي الفطرة ألصق بالمنهج التجريبي، القائم على الملاحظة، وأقرب إلى التأثير في النفس، وأقدر على إقناع العقل من أية صيغة قياسية.

فالناس نوعان:
أ- نوع سليم الفطرة: حيث إنه يعرف الله تعالى، ويؤمن به بفطرته التي قد جُبِل عليها، فإذا رأى آيات الله تعالى في أرضه وسمائه عرف أنها آيات له، ودلائل على وجوده، فمعرفته وإيمانه بالإله الخالق سابقان لمعرفته بآيات الله جل وعلا، حيث إن معرفته بالآيات تؤكد إيمانه ولا تنشئه.([2])

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية):
«ثم الفِطَر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فُطِرَت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها له ودلالة عليه... يقتضي تصور المدلول عليه، وتَصَوُّر أن ذلك الدليل مستلزم له، فلا بد في ذلك أن يعلم أنه يستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصورًا لم يعلم أنه دليل عليه»([3]).

ب- ونوع حدث في فطرته خلل، فلم يعد يؤمن بوجود الخالق، لكنه إذا تأمل آيات الله تعالى وجدها دالة عليه، فآمن بالله عن طريق الآيات.

فكأن الآيات هي في حقيقتها تذكير للإنسان بأمر مستقر في فطرته([4]).
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية):
«إن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطريًّا ضروريًّا في حق من سَلِمَت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه الكثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها»([5]).

يقول الله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 35، 36].

إن في خلق الإنسان آية دالة على وجود خالقه.
فالقرآن الكريم يدعو المنكر لوجود الخالق سبحانه وتعالى أن يفكر في هذه الحقيقة التي يعرفها أكثر من معرفته لغيرها من الآيات الأخريات في الأرض والسماء.

فكأن القرآن الكريم يقول لذلك المنكر لوجود الله تعالى:
إذا لم يكن الله هو الذي خلقك، وخلق الكون حولك، فهل خُلقت من غير شيء خلقك؟! أي هل جئت من العدم المحض؟!
سيقول كل عاقل في نفسه: كلا... فإن هذا مستحيل.

فهل أنت الذي خلقت نفسك؟!
سيقول: كلا... فإن هذا يبدو أكثر استحالة.

فهل كنت أنت الذي خلق هذه السماوات والأرض؟!
سيقول: كلا... فالقول بهذا مكابرة.

فهذه حجة فطرية يُدركها الناس بعقولهم، لذلك قرر القرآن الكريم مقدماتها في شكل أسئلة استنكارية.([6]).
وقد كان لهذا الخطاب القرآني، في الآيتين السابقتين وَقْع مؤثر جدًّا على بعض من استمع إليه من العرب.

«فقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت النبي صل الله علية وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية:

﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ [الطور: 35-37].
كاد قلبي أن يطير» [أخرجه البخاري].

وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره هذه الآية الكريمة كان جبير قد قدم على النبي صل الله علية وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركًا، فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.

2- الإمام مالك:
حكى الرازي عن الإمام مالك، أن الرشيد سأله عن ذلك –يعني الدليل على وجود الرب تعالى- فاستدل له –يعني الإمام مالك-: باختلاف اللغات والأصوات والنغمات.([7])
أي أن: اختلاف اللغات بين مُختلف الأفراد والشعوب في شتى الأقطار، وكذلك الأصوات والنغمات من الآيات والدلائل التي تشهد بوجود هذا الإله الخالق، وعظيم حكمته وقدرته.

3- الإمام أبو حنيفة:
عن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى –الخالق- فقال لهم: دعوني، فإني مُفكر في أمر قد أُخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر، وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت من غير أن يسوقها أحد.

فقالوا –الزنادقة-: هذا شيء لا يقوله عاقل.
فقال: ويحكم، هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المُحكمة، أليس لها صانع؟!

فبُهت القوم، ورجعوا إلى الحق، وأسلموا على يديه.([8])

لذلك فإن الفطرة الحكيمة السوية تقتضي بأن يكون للكون إله خالق، مُدبِّر حكيم، فلا ينكر ما أقرته الفطرة السوية والعقل السليم إلا جاهل جاحد.

4- الإمام الشافعي:
عن الإمام الشافعي، أنه سُئل عن وجود الصانع –الخالق- فقال:
هذا ورق التوت طعمه واحد، تأكله الدود فيخـرج منه الإبريسـم –الحرير- وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة فتلقيه بعرًا وروثًا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد.([9])

فقد استدل الإمام الشافعي بآية من آيات الله سبحانه وتعالى، والتي تشهد بعظم خلق الله تعالى وطلاقة قدرته، وتدلل على وجوده سبحانه وتعالى.
فقد علم –الإمام الشافعي- أن هذه الآية دلالة على هذا الإله الخالق، وذلك بفطرته السوية، فكانت هذه الآية تأكيدًا للإيمان، لا لإنشائه كما أوضحنا سابقًا.

5- الإمام أحمد بن حنبل:
عن الإمام أحمد بن حنبل، أنه سُئل عن ذلك –يعني: الدليل على وجود الرب تعالى- فقال:
هاهنا حصن حصين، أملس، ليس له باب، ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز- الصافي- فبينما هو كذلك، إذا نصع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت حسن، مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة.([10])

6- وسُئل أبو نواس عن ذلك –يعني: الدليل على وجود الرب تعالى- فأنشد:

تأمل في نبات الأرض وانظر
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات
بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك

7- وقال ابن المعتز في ذلك –يعني الدليل على وجود الرب تعالى-:

فيا عجبًا كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد

ونختم عنوان هذا الفصل بآيات الله تعالى في قوله:
﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [إبراهيم: 10].
﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ [الزخرف: 16].
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].

فإذا ما وضعنا ما تشير إليه هذه الآيات الكريمات في صيغة منطقية عقلية، مُخاطبة للملحد، المنكر لوجود الإله الخالق تكون كالتالي:

أنت –الملحد- تعلم من نفسك أنك حادث، وُجدت بعد أن لم تكن.
فإما أن تكون قد وُجدت من العدم، أوأن شيئًا أوجدك.
ومن المستحيل أن تُوجد من العدم.
إذن فقد أوجدك شيء –مُوجِد-.
وهذا المُوجد: إما أن يكون أنت نفسك أو يكون غيرك.
ومن المستحيل أن تكون أنت الذي أوجدت نفسك.
إذن: فلا بد أن يكون شيئًا غيرك هو الذي أوجدك.
وهذا الغير الذي أوجدك إما أن يكون مِثلك، في حاجته إلى من يُوجده أو لا يكون في حاجة لذلك.
ولا يمكن لهذا الذي أوجدك أن يكون مثلك، لأنه لو كان مِثلك لقلنا له أيضًا مثل ما قلنا لك.

إذن: فلا بد أن يكون هذا الذي أوجدك خالقًا غنيًّا بنفسه، غير مُفتقر إلى من يوجده. ([11])

ولا شك: أن هذا المُوجِد هو الله سبحانه وتعالى.

فَنَخْلُص من ذلك:
بأن الفطرة الحكيم السوية تقتضي أن يكون للكون إله خالق، حكيم عظيم، غنيًّا بنفسه، غير مُفتقر إلى من يُوجِده، لأنه جل شأنه: هو المُوجِد لكل شيء.



([1] ) الشيخ: محمد بن صالح العثيمين: فقه العبادات.
([2] ) الفيزياء ووجود الخالق، د/ جعفر شيخ إدريس.
([3] ) مجموع الفتاوى، ابن تيمية.
([4] ) الفيزياء ووجود الخالق، د/ جعفر شيخ إدريس.
([5] ) مجموع الفتاوى، ابن تيمية.
([6] ) الفيزياء ووجود الخالق، د/ جعفر شيخ إدريس.
([7] ) تفسير القرآن الكريم، لابن كثير.
([8] ) تفسير القرآن الكريم، ابن كثير.
([9] ) تفسير القرآن الكريم، ابن كثير.
([10] ) تفسير القرآن الكريم، ابن كثير.
([11] ) الفيزياء ووجود الخالق، د/ جعفر شيخ إدريس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق